حطام الخطيئة على مائدة كيسنجر وغيتس...في إنتظار تربع الأخ الأكبر على عرش إنترنت الإنسان
د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
ذات مساء من خريف عام 1973، وقف وليام هنري غيتس الثالث تحت شجرة قيقب أمام كلية الحقوق في جامعة هارفرد، ليطل عبر نافذة الحلم على صدى أشعة الشمس المتناثرة على أغصان أفق بلون البرتقال، بينما كان هنري كيسنجر يخوض عباب الأطلسي صوب الشرق المثخن برائحة الكبريت، يجوس فيها الأجواء ويهندس رحلات مكوكية بين عواصم فيها بقايا من عروبة، وسباق محموم ليأوي تل أبيب في حضن أمريكيا الرءوم، يدر عليها بالرضاع ويدرء عنها السقوط. وبينما لم تتجاوز رحلة الفتى غيتس في هارفرد عامين؛ كان كيسنجر قد تخرج فيها قبل ذلك بعشرين وفي جعبته ثلاث شهادات في السياسية، ومعها إطروحه دكتوراة في "السلام والشرعية والتوازن". غادر غيتس هارفرد؛ مغاضباً دون شهادة، إلى كراج ألبوكيرك في نيومكسيكو حيث في الانتظار جنين مغامرة لإقامة صرح ميكروسوفت، بمعية زميل الدراسة بول آلان، وإذ به في غضون عشرين عاماً يتربع على عرش الثراء العالمي. وبينما كان كيسنجر يسير على رمال الشرق الملتهب خطوة خطوة بين الخيمة والبازار، وجملة نظريات في السياسة الهارفردية تضمن تدفق الذهب الأسود في أجواف نهمة وهي تلتهم الكرامة في مصانع دويترويت وبيتسبرغ وهيوستن، كان غيتس يساير صدمة المستقبل، يوصل الليل بنهاره ليحقق نبؤة منظر ساسة الغرب، آلفين توفلر، في الموجة الثالثة وحضارة جديدة موعودة، عمادها معرفة تحمل على كتفيها كومة دولار وفوهة بندقية، وتؤول في النهاية إلى تحول في السلطة يحرك شهوة الزعامة في قلب أمريكيا ويثير شهيتها للهيمنة والنفوذ.
أفل نجم كيسنجر في ثنايا الشيخوخة منذ أمد بعيد، بينما شمس غيتس ما زالت تسطع على حضارة تضطرب في فوضى عارمة تجتاح النفس والروح، في مشهد سريالي مجنون يحير العقول في الغرب كافة، مثلما الشرق منبع التحدي ومصدر المنافسة. ويصدف أن يكون في ووهان، حيث مختبر بيولوجي أنشئ منذ عامين ونيف، ويصدف أن يقام في نفس المكان أولمبياد عسكري استقطب 15 ألف لاعب من 134 دولة، ومنها أمريكيا بالطبع، يتبارون ويتسابقون على بعد بضع أميال من سوق الخفافيش المزعوم، وإذ بنسخة جديدة من فيروس تاجي جديد ينتشر في الهشيم والرياح تذروه بأجواء المدينة. انتفضت قيادة الصين فوراً، إذ اشتمت الخطر بأنفها الشيوعي واستشعرت رائحة المكيدة بحدسها وتجربتها مع نزيف الألم في الأمس القريب، وبضراوة قاومت شراسة الجائحة وإحتوتها بهدوء وإقتدار في بضع أسابيع. عندها وجهت الصين أصابع الإتهام إلى أمريكيا، بدليل استجواب الكونجرس لروبرت ريدفيلد، مدير المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، قبل أن يضرب الوباء الصين بقليل، مع قصة شخصين قضى عليهما الفيروس في أمريكيا نفسها قبل الصين. احتدم الجدل بعد ذلك بين القوتين حول المريض رقم صفر، فاعتقلت السلطات الأمريكية تشارلز ليبر، الأستاذ بجامعة هارفارد، بتهمة العمل لصالح الصين، إضافة لشخصين آخرين، ما غذى نظريات المؤامرة حول تفشي وباء الكورونا، وتحديداً مع إصرار الرئيس ترمب بعنجهية على تسميته بالفيروس الصيني.
فجأة، ومن زوايا النسيان، وبعد أن ضرب كورونا أرض الحرية والأحلام، أطل كيسنجر من منفى الشيخوخة عبر نافذة وول ستريت جورنال يوم 3 نيسان/أبريل 2020، يطالب بخطة مارشال أو مشروع مانهاتن دولي تتولى فيه الولايات المتحدة مسؤولية دعم المرونة تجاه الأمراض المعدية وتطعيم شامل للناس، والسعي لشفاء جراح الاقتصاد العالمي وإنقاذه من براثن الفوضى الوشيكة، وأخيراً حماية مبادئ النظام الليبرالي الديمقراطي لقيادة التغيير عبر حكومية عالمية تدير دفة البشرية. ليس واضحاً تماماً ما يقصده كيسنجر، إلا إذا كان يلمح إلى مجموعة بلدربيرغ التي تأسست عام 1954 بمبادرة من البولندي الماسوني جوزيف هيرونيم ريتينغر، الذي ينحدر من أصول يهودية مثل كيسنجر نفسه، بدعوى تهدف إلى الحد من تمدد الشيوعية عبر قناة خلفية للناتو تضم مجموعة من الملوك والأمراء والساسيين ورجال الأعمال وأصحاب البنوك والأكاديميين والصحفيين، وغيرهم من أذرع النفوذ، وهاجسها إدامة الهيمنة الغربية على البشرية جمعاء والسيطرة على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية عبر حكومة عالمية نخبوية، كما وصفها الصحفي الليتواني دانيال إستولين في كتابه: "حقيقة مجموعة بيلدربرغ" عام 2006. يعتبر كيسنجر اليوم مهندس المجموعة وأهم عضو في نواتها الصلبة الغامضة التي تضم ملكة هولندا وديفيد روكفلر والرؤساء التنفيذيين لشركات كوكا كولا وإيرباص وفيات وآي بي إم وباي بال ونائب رئيس شل ومدير الخطوط الجوية الاسكندنافية والمدير العام للمنظمة الدولية للتجارة ورؤساء البنك الدولي، وغيرهم كثير. وتعقد مجموعة بلدربيرغ إجتماعاً سنوياً يشمل 120-150 مشاركاً، كان آخرها في مدينة مونترو السويسرية في بداية حزيران/يونيو من العام الفائت، حضره مايك بومبيو وجارد كوشنر. تمثل مجموعة بيلدبيرغ مع منتدى دافوس الاقتصادي ونادي ميونيخ الأمني وطيف من التنوع في المؤسسات غير الحكومية من مثل كارنيجي، وراند، والمجتمع المفتوح التي أسسها الملياردير اليهودي جورج سورس عام 2013، بميزانية قدرها البالغة 1.2 مليار دولار، ومؤسسة بيل وميليندا غيتس التي بلغت موازنتها 3.9 مليار دولار، وغيرها المئات، ثمثل قاعدة أساسية للمشروع الغربي في سعيه للهيمنة والنفوذ، ولكن بواجهات إنسانية اللمسة، مدنية الوجه، وخيرية التوجه.
تكشف جائحة كورونا إن الصدفة ليست سوى قناع يخفي الجهل بالأسباب، وأن الضرورة أم المخاطر، فمن يتتبع شلال التهم وإضطراب الأحداث يدرك تماماً أن للفوضى نظرية، وأن رفرفة أجنحة الفراشة بإمكانها أن تحول مسار الغيوم، حسب عالم الرياضيات الأمريكي إدوارد لورنز، واصفاً روعة وجمال التوازن في الطبيعة التي لا تفعل شيئاً عبثاً، ولا تستعجل بما تنجز، وعندما يحل وباء يكون قطارها خرج عن سكته. كورونا إذاً مجرد صدى لأنين الطبيعة من عبث الإنسان، أكان ذلك العبث خللاً بريئاً، أو كان أداة حرب شريرة ما زالت بقبضة إيد خفية أو خرجت عن سيطرتها سواءً بسواء. الدلائل تشير إلى أن عاصفة الشك تلبد سماء العالم، وأن تحت رماد الحقيقة بركاناً يستعر، فالحقيقة جميلة بلا شك. ولكن الأكاذيب كذلك. وبالنظر إلى بعض ذاك الشك، نجد أن باراك أوباما قد حذر من وباء قادم في خطبة له يوم 2 كانون الأول/ديسمبر 2014، وكذلك عرض بيل غيتس على موقع تيدتوك في آذار/مارس 2015، وحديث د. أنثوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية وعضو فريق عمل البيت الأبيض، في جامعة جورج تاون في 10 كانون الثاني/يناير 2017، إضافة إلى مجموعة من التحذيرات الأخرى من مثل كتاب خبير الفيروسات النيوزلندي روبرت ويبستر الذي نشره في كانون الأول/ديسمبر 2019 تحت عنوان: "صائد الإنفلونزا: كشف أسرار الفيروس"، وحذر فيه من فيروس يقتل ملايين البشر، وكذلك د.مايكل أوسترهولم، أستاذ الوبائيات والأمراض المعدية بجامعة مينيسوتا في مقابلة له مع مجلة الشؤون الدولية عام 2005، وجيريمي كونينديك، المدير السابق لمكتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الذي نشر مقالاً في مجلة بوليتيكو عام 2017 حول: "أزمة صحية عالمية جديدة كبيرة هي مسألة متى، وليس إذا".
إن أعظم الشكوك تدور الآن حول برنامج محدد يسمى ID2020، يسعى لتسويق الحاجة إلى هوية رقمية لكل شخص في العالم، ويضم إئتلافاً من مجموعة مؤسسات على رأسها مؤسسة روكفلر، وميكروسوفت، وإئتلاف التطعيم العالمي (غافي)، وشركة الاستشارات الإدارية والخدمات المهنية العالمية (أكسنتشر)، وشركة آيديو التي تصمم المنتجات والخدمات والخبرات لتحسين حياة الناس في المجتمعات الفقيرة والضعيفة. كما قام المسؤولون عن المشروع بالتشارك مع الأمم المتحدة لتحقيق هدف التنمية المستدامة 16: تعزيز المجتمعات السلمية والشاملة للتنمية المستدامة. ويسعى برنامج ID2020 من ذلك إلى تحقيق الهدف المباشر الخاص بتصميم رقاقة بشرية قابلة للبرمجة والقراءة عبر شبكة إنترنت الأشياء وبذلك يصبح لكل فرد عنوان إلكتروني (IP Address) تماماً مثل أي موقع إلكتروني، بعد أن مهدت شبكة إتصالات الجيل الخامس (5G) إمكانية وصل ملايين البشر لاسلكياً. توضع الرقاقة تحت جلد اليد، وتحتوي على كافة المعلومات الشخصية التي تعرف وتحدد هوية الشخص وسيرته الذاتية من مثل الإسم والعنوان والتعليم والرقم الوطني والرقم الضريبي ورخصة القيادة والسيارة وجواز السفر وكافة البيانات الطبية وحساب البنك، تمهيداً للتعامل مع البلوكشين والعملات المشفرة، وأي معلومة جديدة يتطلبها النظام ليقرأها ويخزنها. وبهذا تكون عملية التطعيم ضد فيروس كورونا، وتدوينها كسجل وشهادة رقمية في الرقاقة، هي المبرر الذي يتقبله الناس لزرعها في أجسادهم، وبالتالي يسهل متابعتهم ومراقبتهم أينما كانوا، ورصد سلوكياتهم وحتى التحكم بها.
لذلك يطفح على سطح الإعلام الغربي، وخصاصاً السوشيال ميديا، سيل من التقارير التي تشير إلى تورط بيل غيتس بإعتباره أهم عقل مدبر في نظرية مؤامرة جائحة كورونا بسبب دفاعة المستميت عن التطعيم الرقمي. ومن تلك التهم الدعم المالي الضخم الذي قدمه لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، وتعيين د. أنثوني فاوتشي نفسه عضواً في مجلس قيادة مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وكذلك تعيين الدكتورة ديبورا بيركس منسقة لفريق مجابهة فيروس كورونا في البيت الأبيض اعتباراً من بداية هذا الشهر، وهي التي كانت تلقت دعماً مالياً لمشروع دريم لمكافحة الإيدز من مؤسسة بيل وميليندا غيتس عام 2014، وغيرها العديد من التكهنات والتهم.
يظهر إذاً بيل غيتس كعامل مشترك للتفكير الجمعي في مشروع آلفين توفلر للموجة الثالثة التي تتطلب تزواج الإنسان مع التكنولوجيا في بنية مادية متكاملة لإقامة مجتمع المعرفة الكوني الذي تقوده أمريكيا عبر حكومة عالمية تشكلها كافة المؤسسات التي تعمل بتنسيق مذهل منذ عقود من أجل هندسة الجمهور ورعاية القطيع. ويبدو كورونا مجرد عربة تسرع عملية التحول إلى الموجة الثالثة بقيادة حكومة كيسنجر الخفية، وعبر إستثمار كافة عناصر الثورة الصناعية الرابعة من مثل الذكاء الصطناعي والبيانات الضخمة والبلوكشين وإنترنت الأشياء؛ إذ سيغدو قريباً "إنترنت الإنسان"، حين يتوسل حطام الخطيئة الأولى على مائدة غيتس، وينتظر صعود كيسنجر على عرش الأخ الأكبر، ليروي من هناك على البشرية قصة هارفرد خاصته، عن السلام والشرعية والتوازن، يروي لهم قصة الإنسان الذي يريد، فها هو اليوم قد توج على أكتاف كورونا إمبراطوراً للإنسان والكون.