jo24_banner
jo24_banner

إسرائيل ضرورة إمبريالية منذ تشرشل لبنان إلى بلاك روك وفانجارد وما بعد

د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
 
نعود إلى "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الكتاب الذي ألفه الأميركي فرانسيس فوكوياما عام 1989 وعرض فيه رؤية دوائر الفكر والقرار في الغرب المتمثلة في أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها الرأسمالية ومبادئها النيوليبرالية تشكل المثال النموذجي لطبيعة الحكم ونهاية الأيديولوجيا في بناء المجتمع الإنساني، ولا يعني بالضرورة نهاية العالم. عزز تلك النظرية الأمريكي الآخر صامويل هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، عام 1993، التي تبشر بصراع الحضارات الرئيسة في العالم في العقود القادمة من مثل الحضارة الغربية واللاتينية والأرثوذكسية والبوذية والكنفوشوسية والهندوسية والأفريقية والإسلامية التي تتصف جميعها بسمات ثقافية وعقائدية متمايزة لكل منها منظومتها القيمية والإجتماعية وطريقتها في العيش، وهذا صراع يتجاوز الدولة القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية إلى دائرة أوسع تستوجب بناء الشراكات والتحالفات، وتحديداً مجموعة الحضارات المسيحية الثلاث وربما الهندوسية معها ضد تحالف البوذية والكنفوشوسية والأفريقية والإسلامية. كلا الكتابين ركز على الإسلام بإعتباره يمثل حضارة دموية متنازعة مع نفسها ومع الأديان والحضارات الأخرى. كما صدرت مجموعة كبيرة من الكتب التي تتعامل مع تفصيلات "نظرية نهاية التاريخ وصراع الحضارات" منها ما يتناول الأمثلة التي تجسد التطبيق العملي لها من مثل كتاب " فخ العولمة: الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية" صدر عام 1996 للألمانيان هانس بيتر مارتن وهارالد شومان، وكتاب "لماذا تفشل الأمم-أصول السلطة والازدهار والفقر" الذي صدر عام 2015 للمؤلفان الأمريكي التركي دارن أسيموجلو والإنجليزي جيمس روبنسون، ومنها ما يدين تلك النظرية من مثل كتاب "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، للكاتبة الكندية اليهودية ناعومي كلاين صدر سنة 2009، وكتاب "من يحكم العالم" للفيلسوف نعوم تشومسكي صدر عام 2016، والأهم رواية "1984" للبريطاني جورج أورويل التي ألفها عام 1948 واستشرف فيها صراع الحضارات وسيطرة نظم الحكم الشمولية التي تهيمن حتى على الطريقة التي يفكر بها الإنسان.

إن السرعة التي استجابت بها الإدارة الأمريكية لنداء استغاثة الكيان عقيب سويعات من عملية "طوفان الأقصى"، فأرسلت الأسطول السادس وحاملة الطائرات جيرالد فورد ليؤدب الضيف وصحبه ورفاقه ويبيد غزة، وفي ذلك سقطة مريعة تحت ضغط اللحظة كشفت بجاحة الإنحياز وصفاقة الوساطة وأزالت ما تبقى من حجاب الخجل وستار الحياء. الغرب إذاً يستنفر لنصرة الكيان وذلك تجسيداً "لنظرية نهاية التاريخ وصراع الحضارات" وإنطلاق شرارتها الفعلية والعملية بعدما مهدت لذلك منذ عام 2001 بهجمتها على الإسلام وإتهامه بالإرهاب وسخريتها من الرسول الكريم بالرسوم المسيئة وحرقها المتكرر للقرآن ثم ترجمة ذلك عملياً باحتلال افغانستان وتدمير العراق واشعال ثورات الخريف العربي وتفتيت ليبيا وإعطاب اليمن وتقسيم السودان وتقويض سوريا بأيد الجماعات الإرهابية الداعشية التي صنعتها لهذا الغرض، إضافة إلى تعطيش مصر وتكسير لبنان وإبتزاز دول الخليج العربي، وقسمة العالم الإسلام إلى طائفتين متضادتين يسهل السيطرة على كل منهما على إنفراد.

إن المدقق لأحداث التاريخ يكتشف أن الاستعمار الغربي هو العقل المدبر لمأساة الشعوب العربية وأن اليهود مجرد وسيلة لتنفيذ مخططها الامبريالي وإقامة الكيان في قلب العرب ونبضها الصادق فلسطين، كرأس حربة في ذاك المشروع العدواني الذي يهدف إلى كبح جماح النهضة العربية وتفتتيت الأمة إلى مساحات جغرافية تمنعها من الوحدة وتلجم خطورتها الرابضة على الضفتين الجنوبية والشرقية من البحر الأبيض المتوسط وتتحكم، بموقعها الجغرافي وأجوائها وكافة المضائق البحرية الاستراتيجية. الحقيقة المرة أن المخطط الغربي، وتحديداً الأنجلوساكسوني، بدأ منذ حوالي مائتان عام، وتحديداً في بدايات القرن التاسع عشر، وأحد الأدلة على ذلك محاولات العقيد تشارلز هنري تشرشل (1807–1869)، المعروف أيضاً بإسم "تشرشل لبنان"، وهو من نفس عائلة ونستون تشرشل المنحدرة من سلالة مالبورو المعروفة، إذ كان ضابطاً بالجيش البريطاني ومن ثم قنصلاً لبريطانيا في سوريا العثمانية، حيث تزوج من فتاة من آل الشهابي واستقر في بلدة بحوارة في قضاء عاليه بجبل لبنان وأنجب ذرية يبدو نسلها ما زال حاضراً . كما ألف "تشرشل لبنان" عدة كتب منها "الدروز والموارنة في ظل الحكم التركي من 1840 إلى 1860"، "جبل لبنان" وكتاب عن حياة الأمير عبدالقادر الجزائري.

كان "تشرشل لبنان" اقترح عام 1841 إحدى الخطط السياسية الأولى للصهيونية وإنشاء دولة يهودية في فلسطين وذلك عبر مراسلاته مع صديقه المصرفي السير موسى حاييم مونتيفيوري (1784–1885)، بصفته رئيساً لمجلس نواب اليهود البريطانيين، والذي كان ممولاً لليهود في بلاد الشام لتعزيز أوضاعهم الاقتصادية والتعليمية والصحية. كان مونتيفيوري هذا تزوج من جوديث كوهين، إبنة المليونير اليهودي ليفي بارانت كوهين وبذلك أصبح عديلاً لناثان ماير روتشيلد (1777–1836) المعروف. تعتبر مساهمات مونتيفيوري محورية في تطوير الصهيونية بشكلها الأولي لكنه رقض مقترح "تشرشل لبنان" لإنشاء إسرائيل في وقتها لإعتبارات عدة، وبدلاً من ذلك أسس على نفقته أول مستوطنة في القدس هي مشكنوت شانانيم عام 1860، وساعد في هجرة اليهود إلى البلاد المقدسة.

حاولت بريطانيا إذاً إقناع اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، كما يوضح ذلك المفكر المصري في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، واستغرقها ذلك القرن التاسع عشر كله حتى تجاوبت لذلك الحركة الصهيونية التي صنعتها بيدها كما صنعت الكثير من الحركات في العالم العربي والإسلامي من مثل داعش وغيرها كثير، ومن ثم ساقت يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين طوعاً وكرهاً وإرهاباً، لدرجة يمكن القول إن اليهود سوى ضحية للمخطط الإستعماري الغربي كما هم العرب، ولم يدرك بعضهم ذلك إلا متأخراً وبعد فوات الأوان وتورطهم تماماً. لذلك نرى اليوم أن الكثير من يهود العالم يعملون ضد إسرائيل وممارساتها، وجزء كبير منهم أصبحوا غير متحمسين للفكر الصهيوني بل وإسرائيل ذاتها، وبالتأكيد أقل إندفاعاً من الساسة المسيحيين المتصهينين في امريكا وتحالفهم العجيب مع اليمين العنصري الذي يجتاح أوروبا مع أن اليهود كانوا دوماً أهم وأول ضحاياه.

إن تفسير السلوك الأوروأمريكي المتطرف والعلني إتجاه عملية طوفان الأقصى يصبح سهلاً في ضوء "نظرية نهاية التاريخ وصراع الحضارات"، وتحديداً في ظل تنامي سطوة الشركات العظمى على السياسة في امريكا من مثل شركة بلاك روك ومقرها نيويورك التي تأسست عام 1988، وهي أكبر مدير للأصول المالية للشركات العالمية حيث تبلغ 9.42 تريليون دولار ومديرها العام اليهودي لاري فنك. ومثلها شركة فانجارد ومقرها في مالفيرن، بنسلفانيا، وتدير أصولاً مالية تبلغ قيمتها حوالي 7.7 تريليون دولار، وشركة ستيت ستريت للخدمات المالية والبنوك القابضة ومقرها الرئيسي في بوسطن وأصولها تبلع 3.6 تريليون دولار، وغيرها من شركات الأصول المالية التي تملك معظم أسهم الشركات والماركات العالمية التي تخطر على البال ولا يمكن حصرها هنا، وبإختصار فإنها تتحكم بحوالي 66 تريليون دولار من أصل 440 تريليون دولار حجم الإقتصاد العالمي الكلي، ولذلك فإن لها الكلمة العليا في السياسة الدولية وإدارة العالم وتحديد مستقبله في ضوء مصالحها وأهدافها وعبر أدواتها الرسمية من حكومات والمنظمات الدولية والأدوات السرية. إن الإمبريالية كانت دائماً مدفوعة بالمصالح الاقتصادية أو الاستراتيجية حسب الصحفي الأمريكي المحافظ تشارلي ريس (1937-2013)، وطالما هنالك إمبريالية فمن المستحيل تحقيق السلام في العالم.

لا نبالغ القول أن "طوفان الأقصى" نقطة فاصلة في التاريخ ستحدد مسار العالم أجمع فيما تبقى من القرن الحادي والعشرين، فإذا ما نجحت إسرائيل المجرمة من اجتياح غزة وتدميرها وإستئصال المقاومة دون نصرة العرب، فسينهار ما تبقى من النظام العربي الرسمي وسيدخل العالم العربي في مرحلة أخرى من الفوضى العارمة أو ما يسمى الشرق الاوسط الجديد وسيدته إسرائيل دون منافس. كما سينكمش محور المقاومة، وستبدأ روسيا بالتقهقر والصين بالتراجع وستفشل محاولات منظومة بريكس لإعادة تشكيل النظام الإقتصادي العالمي متعدد الأقطاب، بل وإنهيار القانون الدولي بكل مؤسساته، وبإختصار سينتصر الغرب والرأسمالية المستوحشة والنيوليبرالية السافلة وسنصل إلى نهاية التاريخ كما تريدها امريكا. وعكس ذلك، أي إنتصار المقاومة بإذن الله، فهو الإنتصار المبين للعرب والمسلمين والعالم الحي في كل أركانه وألوانه وشعوبه.


 
تابعو الأردن 24 على google news