jo24_banner
jo24_banner

الأردن وسؤال الديمقراطية الحائر.. بين صمت الدستور ونص يبتغي التعديل

د.عبدالله الزعبي
جو 24 :


 


شكل سؤال الحكم أعمق تحد للإنسان منذ فجر الحضارة الباكرة في سومر حيث ولدت أول مدن التاريخ. ومنذئذ، دأب الإنسان على ممارسة عدة أشكال من الدولة على مر العصور ساد عليها طابع الإمبراطوريات الكبرى وتناثرت فيها وحولها ممالك المدن والإقطاع والقلاع والموانئ والجزر في البحار. أخذت الدولة شكلها الحديث بعد صراع مرير في أوروبا استمر لقرون طويلة، وتوج بمعاهدة وستفاليا عام 1648، عندما اتفقت الجهات المتحاربة على إنهاء حرب الثلاثين عاماً في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي شملت ألمانيا اليوم، وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا وهولندا. أرست معاهدة وستفاليا بذلك نظاماً جديداً يعتمد على مبدأ سيادة الدولة القومية التي تشمل الاستقلال في القرار والمواطنة والأرض والحدود والموارد الطبيعية والمائية والعلاقات الدولية وغيرها من مسائل الحكم والسيادة.

في غضون ذلك، كانت إنجلترا تشهد أحداثاً جساماً مثلت علامة فاصلة في مسيرة الإنسان السياسية، حيث كانت الحرب الأهلية (1642-1651) بين الملك تشارلز الأول والبرلمان في أوجها، وانتهت بإعدام الملك عام 1649، وتنصيب ابنه تشارلز الثاني على العرش، لكن الملكية استبدلت، بعدنفي تشارلز الثاني إلى فرنسا عام 1651، وتحولت البلاد إلى كومنولث تحت حكم أوليفر كرومويل (1653-1658). كان البرلمان في حينها مجرد مجلس استشاري للملك يتكون من الطبقة الارستقراطية والنبلاء والإقطاعيين ورجال الكنسية، وأنشئ عقب وثيقة الماجنا كارتا التي وقعها الملك جون (1166-1216) عام 1215؛ إذ ضمنت حقوق الكنيسة وحماية البارونات من السجن وخفض القيود على الضرائب الإقطاعية للتاج. لهذا، تعتبر وثيقة الماجنا كارتا أول خطوة على طريق الديمقراطية، فيما المجلس الاستشاري تطور تدريجياً ليشكل ما يعرف اليوم بالبرلمان. استعاد تشارلز الثاني النظام الملكي بعد وفاة كرومويل، وخاض حروباً خارجية وصراعات دينية داخلية تشكل على إثرها، عام 1678، أول أحزاب في التاريخ، هما حزب التوري (المحافظين) الذي دعم الملك، وحزب الويجز (الأحرار) الذي مثل البرلمانيين. نصب جيمس الثاني ملكاً خلفاً لأخيه تشارلز الثاني الذي توفي عام 1685، فقامت عليه الثورة المجيدة عام 1688، نتج عنها تنصيبأخته ماري الثانية ملكة على انجلترا مع زوجها وليام الثالث، وتوجت بإعلان الحقوق عام 1689 الذي أنهى حق الملوك الإلهي في الحكم، واعتبار ذلك الحق مستمداً من الشعب الذي يختار ممثليه في البرلمان، وبذلك اقتسم البرلمان الحكم مع الملك وأصبح صاحب الكلمة العليا في شؤون الدولة. صعدت بعد ذلك الملكة آن على العرش، حيث شهد عهدها توحيد إنجلترا واسكتلندا في مملكة واحدة متحدة، وأجريت أول انتخابات عامة في التاريخ عام 1708، كما تشكلت أول حكومة منتخبة برئاسة حزب الويجز.

خرجت الديمقراطية إذاً من رحم الملكية والإقطاع والكنيسة ذاتها، وانتشرت في أوروبا والعالم الجديد، وأخذت نموذج البرلمان المنتخب عبر التمثيل الحزبي، ومهدت الأجواء لقيام الثورة الصناعية التي قضت على الاقطاع وهيأت الظروف لظهور الرأسمالية والبرجوازية التي أخذت دوراً طليعياً في تبني الديمقراطية وتطويرها باعتبارها أساس الحكم في العالم الغربي مع نهايات القرن الثامن عشر. ومع ذلك، بقي مفهوم الديمقراطية ملتبساً حتى في عقر دارها، حيث نعتها وينستون تشرتشل (1874-1965)، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، بكلمات، بسيطة في الظاهر عميقة في الجوهر، فحواها أن "أقوى حجة ضد الديمقراطية هي محادثة تستغرق خمس دقائق مع رجل الشارع"، بينما وصفها توماس جفرسون (1743-1826)، ثالث رئيس للولايات المتحدة وصاحب إعلان الاستقلال، بحكم الغوغاء، كما قال فيها الشاعر والأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) أن: "الديمقراطية تجسيد لإساءة استخدام الإحصاءات"، بينما أكد جون آدامز (1735-1826)، الرئيس الثاني للولايات المتحدة، أن "الديمقراطية لا تدوم طويلاً، فهي سرعان ما ترهق نفسها وتهدرها، ثم تنتحر". وربما ينشأ الاستبداد من رحم الديمقراطية،كما لاحظ أفلاطون قبل كل أولئك القوم، وجسد ذلك صعود موسوليني وهتلر إلى الديكتاتورية من بوابة الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا عام 1922 وعام 1933 على التوالي.

أما الحكومة فنالت نصيبها من السخرية والتهكم حين صورها الأديب الأمريكي مارك توين (1835-1910) بعبارته الشهيرة: "لدينا أفضل حكومة يمكن أن يشتريها المال"، في حين عرى الروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون (1850–1894) النظام البرلماني بكلمات خرجت كالسهام؛ إذ قال: " كلنا نعرف ما هو البرلمان، ونحن جميعاً نخجل منه"، أو كما أكد الصحفي البريطاني والتر باجيهوت (1826-1877) بأن "البرلمان ليس أقل من اجتماع كبير لأناس عاطلين عن العمل"، وأخيراً وصف العالم والأديب الاسكتلندي جون أربوثنوت (1677-1735) "الأحزاب السياسية بأنها تموت في نهاية المطاف وهي تبتلع أكاذيبها". تبقى الديمقراطية، مع كل ذلك، نهجاً أخلاقياً وطريقة حياة في الغرب ودول عدة في العالم، بل يعتبرها المفكرون والفلاسفة أفضل أمل للبشرية رغم نواقصها وعيوبها، فهي ليست حلاً سحرياً لجميع المشاكل ولكنها تمثل أفضل أشكال الحكم.

تنص المادة الأولى من الدستور الأردني، الذي صدر عام 1952، بأن "نظام الحكم فيه نيابي ملكي وراثي"، ومع ذلك لا يأتي على ذكر الديمقراطية ولو بكلمة واحدة، بينما المادة 16 (2) تمنح: "للأردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية تكون غايتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور"، ولكنه لا يحدد تلك الغاية، فما فائدتها إذا لم تكن غايتها حقها في الوصول للبرلمان من أجل تداول السلطة عبر تشكيل حكومة تدير شؤون البلاد ضمن رؤى وبرامج سياسية واقتصادية وطنية خالصة.

المشهد السياسي في الأردن أصبح معقداً ومتشابكاً ويزخر بالاحتمالات والتحديات التي تتطلب حلولاً جذرية، خصوصاً عشية احتفال البلاد بمئويتها الأولى، التي صمدت فيها وأنجزت وحققت وجوداً إستثنائياً على الساحة الإقليمية رغم صغر حجمها ومحدودية قوتها ونفوذها. ولسوف يكون انجازاً عظيماً إذا ما قرر صاحب الشأن تعديل الدستور الأردني، وبالذات مادته الأولى، بحيث تشير بوضوح إلى أن نظام الحكم في البلاد: "ديمقراطي نيابي ملكي وراثي"، وتعديل المادة (16) بإضافة بنود تشير بوضوح إلى غاية الأحزاب السياسية، وتحديدها بتشكيل الحكومة. ولا عجب في ذلك، فالديمقراطية شأن نخبوي بحت، ومعظم الديمقراطيات في العالم قررتها النخب وليست الثورات الشعبية التي عادةً ما تنتهي بالدكتاتورية والإستبداد، فهنالك دوماً من يراقب ويرصد تلك الثورات من أجل إقتناص ثمارها. كما يجب تجنب التفكير بالصعوبات التي تعيق المسير وإذا ما كان الشعب مستعداً لها، فما قامت ديمقراطية في التاريخ وفشلت، إنها تحتاج فرصة للنجاح فقط، كما أنها ستبقى أفضل حالاً مما يجري على الساحة حالياً من فوضى، فلقد تحولت الانتخابات البرلمانية من قضية سياسية بحتة إلى حالة اجتماعية يشوبها كافة أصناف الموبقات، وأصبحت عبئاً على الدولة والمواطن معاً، بل أن الدولة تدفع ثمناً باهضاً للنواب الذين أتقنوا اللعبة ويبتزون الحكومة صباحاً ومساءً، ويكلفها النائب الواحد عدة ملايين من الدنانير سنوياً على شكل إعفاءات علاجية وإسقاط غرامات وتوظيف محاسيب، وغيرها الكثير، ناهيك عن المواطن المسكين الذي لا يجد من يمثله أو يدافع عنه في ظل قوانين مجحفة فرضها عليه من يفترض أن يدافع عنه، وما قانون الضريبة الأخير إلا مثالاً ساطعاً.

إن التعديل الدستوري أصبح يمثل الحل الجذري الأوحد لمشاكل الاردن؛ إذ أضحت الديمقراطية الأمل الوحيد الذي يمكنه من الاحتفال بمئوية ثانية عبر مشاركة المواطن في صنع قراره وتقرير مصيره، فهي من الشعب وإليه. ورغم الأكاذيب التي تبتلعها الأحزاب، فقد عجزت الطبقة البرجوازية أن تتوافق حول فكرة سياسية تحمي مصالحها عبر إنشاء "حزب يميني" مثلاً، مثلما عجزت القوى النقابية والطبقة الوسطى من أن تنشيء حزباً وسطياً يمثلها على الساحة السياسية، أو الطبقة العاملة من أن تجسد نفسها يسارياً، بسبب غياب قوى الإنتاج والتمايز الطبقي في المجتمع، وسيطرة الذهنية الأمنية على النظام نتيجة الحرب التاريخية على الأحزاب العقائدية، بكافة أشكالها القومية والأممية، والاستعاضة عنها بأحزاب أشبه بدكاكين لاحتساء القهوة ومعاقرة النميمة.

دروس التاريخ توحي بأن لا حلول وسطاً في السياسة، وأسوأ ما فيها ترك العمل ناقصاً، وأحقرها استغلال الساسة قيم الأمة ومثلها العليا. التعديل الدستوري المطلوب أردنياً إذاً هو استكمال لمشروع قومي ابتدأ عام 1921، وتطور عام 1952، يحتاج اليوم إلى تجديد عبر تبني الديمقراطية نهجاً وطريقة حياة في المئوية الثانية للمملكة، التي لن تستطيع الصمود في وجه التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم أجمع وتجتاحه فكرياً واقتصادياً وسياسياً، بل تهدد النسيج الاجتماعي للبشرية، وربما وجودها كذلك. وإقليمياً، يجد الأردن نفسه وحيداً وجهاً لوجه مع الصهيونية العالمية التي أوعزت بوقف المساعدات المالية عنه، فاضطر تحت وقع الظروف الصحية العالمية، أن يلجأ إلى جيب المواطن، وخصوصاً طبقة الأثرياء عبر التهرب الضريبي، ما يؤدي حالياً إلى اتساع ساحة صراع الدولة مع القوى الداخلية، ومنها البرلمان ذاته.

لقد نادى عالم الاجتماع البريطاني مايكل دانلوب يونج (1915-2020) عام 1958 بنظام ميرتوقراطي يعتمد الجدارة، حيث تمنح السلطة السياسية والاقتصادية للأفراد على أساس الموهبة والجهد والإنجاز بدلاً من الثروة أو الطبقة الاجتماعية، وأثبت فعاليته في دولة صغيرة مثل سنغافورة. كما أن نظم حكم أخرى نجحت تحت ظل ظروف بعينها في أماكن محددة، لكن تبقى الديمقراطية، بكل معايبها، الحل الأنسب لدولة مثل الأردن تعتمد على الإنسان في صمودها ورقيها وتقدمها، وقد حان الوقت لمنح ذلك الإنسان حرية اختيار مستقبله والمشاركة في صنعه عبر ديمقراطية وطنية دون حاجة لثورة بيضاء أو إعلان حقوق، فتلك ستكون أجمل هدية للإحتفال بمئوية المملكة الأردنية الهاشمية، وتضمن صمودها و بقائها وازدهارها.
 
تابعو الأردن 24 على google news