jo24_banner
jo24_banner

العرب في حضرة السبات...والعلم شارد بين الدعاء والرسالة وصليل السيف

د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
 لطالما اجتاحت الحيرة خلجات النفس لذاك المعنى الذي حطت به إقرأ من رحاب الملأ الأعلى على عرش الذرى الشم، عند لجة العتمة في غار حراء. ولعل توق ذاك الوادي غير ذي زرع إلى فقه الحروف ونور المعرفة كان أشد عوزاً حينئذ من ماء السماء تروي عطش بيداء أم القرى وأعراب مكة وما حولها. ومن هناك في جوف الغار، انطلقت إقرأ تجوب صحراء الأميين وتتلو عليهم الآيات، وأمين عظيم منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. مزية اليقين تلك منحت العقل العربي شعلة البحث عن المعرفة ضمن ناموس الله، حيث الزمن لا متناهي في القدم ولا متناهي في الخلود، وأن الحياة نبضة بين السرمد والأبد، تنتهي في الجنة أو الجحيم، وأن مسيرة الحياة؛ في تلك النبضة التي تمتد لسنين معدودات، هي ما يحدد ذاك المستقر والمصير. وليس من خشية من العلم في زعزعة الإيمان؛ بل هو عماده وأساسه، إذ حددت لحظة الغار الأولى مع الروح الأمين طبيعة السؤال والجواب معاً، في إقرأ، خطوة العلم الأولى وقاعدته المتينة، فطفح القرآن ذاته بمسائل الرفض والتصديق، وعوائق الشك واليقين، وعقاب الكفر مع عقبى الإيمان. هكذا فهم أوائل المسلمين أواصر العلاقة بين العقيدة والعلم، ثم في غضون سنين ومحض عقود، طمست الكلمة تلكم الأمية وامتطت صهوة الضاد والعبقرية، فسادت بها مشارق العلم ومغارب المعرفة، من مشارف الصين إلى بحر الظلمات على حافة الأطلسي البعيد.
كلمة واحدة انهمرت شلالات وينابيع، جلبت ربيع مفعم بالخضراء والحياة بعد شتاء قارص في رمض الصحراء، أخذت تحتضن الألسن والأعراق والألوان، كأنها مرآة تعكس روعة الروح في قوس قزح، منها يفوح الزهر عبقاً في كل روض وبستان، عرب وفرس، ترك وقبط، سريان وإغريق وكرد وأمازيغ، يهود وصابئة، وملل ونحل من كل صوب وفج عميق. ومع تلاطم الموج وصليل السيف، انصهر عباب الفكر في العربية، حضارة ولغة ورسالة، ما لها وما عليها. وتشاء الأقدار أن يلتقف المأمون (786-833) سيف الحكم، فيفتدي أسارى بيزنطة بقوافل الكتب المغبرة، ليضعها هدية على منضدة المسيحي حنين بن اسحاق (808-873)، ومن بعده الصابئي ثابت بن قرة (836-901)، أمناء بيت الحكمة، فيشعلوا قناديل الترجمة، ويهيج الكتاب شهوة للمعرفة، ويقبل أهل بغداد على القرأة مثلما أسد ينقض على فريسته، مثلما ردد الجاحظ (776-869) ذات يوم سحيق. ويثمر الكتاب، وينطلق عنان العلم حتى بلغ ذروة النضج وسمى على سنام الشمم وطاول عظمة النجوم، استنطق اسرارها وفك ألغاز الكواكب والفضاء، ابتدع الصفر والبوصلة والإسطرلاب، ودورة الدم الذي يجري في العروق، عالج الجدري والحصبة، اكتشف البارود والطوربيد، صنع الورق وابتدع الرقم، ثم روض الضوء وقاس محيط الأرض، فنسج بساط الحضارة قرون طوال.
ومنذ ألف عام، حطمت صروف الدهر شعاع الفكر وتوارت الكلمة خلف جدران الغار، منذئذ استقال عقل العرب وانكسر تاج العلم على أسوار الهمجية، من بابان إلى جنكيز خان، ما فتئ ينتظر مسحة من الملأ الأعلى تنفض عنه غبار الجاهلية وتنفخ فيه الروح من جديد. وبينما كانت الأمم تصعد سلم العقل والفكر، كان العرب يتسابقون في الهبوط، يسرعون نحو الهاوية، فأفلتت من بين أيديهم ثورة العلم ونهضة الصناعة، وقامت أوروبا بعد صراع الدم والنار، والقوم جماد مطرقون كأن على رؤوسهم الطير، وكلما إزداد العلم تألقاً في الغرب، استشرت خطوب الدجى وانطفأت سماء العلم وأخلدت أقرأ ثانية في دجنة حراء.
وتنبري منذ قرون أقلام الإستشراق في تفسير ما كان ولما، تبحث عن السبب والنتيجة، بينما يراع العرب رقد في السبات، والمداد جف؛ إذ يشكو القفر، والكتب خالية عارية، والأفق موغل في البعد يمزقه السراب، وتفسير هنا وقول هناك، أيهما لا يشفي نقع غليل. ويبرز التبرير دوماً ما بين آفة النص والنقل ورحاب العقل والنقد، بين صراع المعتزلة والأشعرية وتوافق العقل مع العقيدة، وصراع الدولة مع الدين. يقول عضو مجلس السياسة الخارجية الأمريكية روبرت ريلي (1946-) في كتابه "انغلاق العقل المسلم" الصادر عام 2010، "أن خللاً ما أصاب عقل المسلم وعطل دوره، ما أفقده الفضول وغريزة حب الاستطلاع والاستكشاف، فانفك عن الطبيعة والكون، وذلك نتيجة سلسلة من التطورات بدأت في القرن التاسع أدت إلى انفصال بين الخالق والعقل". يتجسد ذاك الخلل في فكرة العرضية الأشعرية التي تنكر السببية الطبيعية، لأن إرادة الله ما زالت تملك الكلمة العليا في قوانين الطبيعة التي يمكن أن تتغير بدعاء إنسان؛ ما يناقض العلم الحديث الذي يرتكز على قوانين كونية راسخة لا تتغير، لا علاقة لله فيها، محايداً كان أو غير موجود. شكل ذلك، حسب ريلي، مصدر أعمق محنة للاسلام التي تجلت في تحول الفلسفة إلى تصوف، وتجسدت في دعاء عمر بن الخطاب: "اللهم ارزقني إيمان العجائز".
ومهما كانت الأسباب، "فإن العلم اليوم أضعف ما يكون في أرض الإسلام"، كما يؤكد ذلك الباكستاني محمد عبد السلام (1926-1996)، صاحب نوبل للفيزياء، وشريكه الأمريكي اليهودي ستيفن وينبيرغ (1933-) الذي "لم يجد بحثاً واحداً يستحق القراءة لعالم فيزياء أو فلك يعمل في دولة مسلمة، وحيث لم يعد هنالك علم يستحق الذكر بعد الغزالي (1058-1111) في رحاب الإسلام". تلك حقيقة أقرها الكاتب المصري شوقي جلال (1931-) حين قال: "أن مجموع ما ترجمه العرب منذ ألف ومائتين عام لا يتجاوز مائة ألف كتاب، وهذا حجم ما تترجمه إسبانيا في غضون عام". إذاً، هيهات أن تشفع حكايا الباحثة الألمانية سيجرد هونيكه (1913-1999) في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" الصادر عام 1962، أو إعجاب عالم الفلك الأمريكي نيل تايسون (1958-) بأسماء النجوم العربية، فتلك أمنيات لا توازي واقع الحال والفقر المر الذي يعاقره العربي صبحاً ومساءً، وتدعمه كافة الإحصائيات والبيانات والأرقام.
إن نظرية الإستشراق التي تتبنى فكرة فشل الإسلام في التوفيق بين الإيمان والعقل تهدف حقيقة إلى زعزعة قاعدته الحضارية من أساسها، وتناقض كل الشواهد العلمية التي تزعم قيامها على الفكر الحر، فلولا ذاك التوافق الآخاذ بين النص والنقد لما قامت تلك الحضارة على الإطلاق. وإن كان ثمة خلل في المسير، فذاك عبث السيف في القلم، وصراع السلطان مع القرآن، فعند كل منعطف وخطب، ومنذ السقيفة، كانت القبضة تكشر عن أنيابها وتبتلع العقل، وكان عراك الحكم يقتلع النقد من جذره ويقتص منه في منبته؛ إذ كان الدين دولة، والسياسة رسالة لم يحسن المسلمون صياغتها وحملها، فتحولت إلى شهوة وسلطة، وكثر طلابها، وأنقسمت الأمة شيعاً وأحزاباً متناحرة، ففقدت ألقها ورونقها، وكان الإنسان في النهاية؛ وما زال، ضحيتها ووقودها ونارها.
يجادل عالم الاجتماع الأمريكي توبي هوف (1942-) في كتابه "صعود العلم الحديث المبكر: الإسلام والصين والغرب" الصادر عام 1993، أنه لم يكن في الحضارة الإسلامية ثقافة مضيافة للنهضة العلمية أو رغبة في بناء مؤسسات علمية مستقلة قانونياً، وأغفل جامعة الزيتونة التي أنشأها عبيدالله بن الحبحاب أمير هشام بن عبدالملك (691-743) في تونس عام 737، وبيت الحكمة الذي بناه المأمون عام 830، وجامعة القرويين في فاس التي أسستها فاطمة بنت محمد الفهري عام 859، وجامعة الأزهر التي أقامها الفاطميون عام 970، والجامعة المستنصرية التي أسسها الخليفة العباسي المستنصر عام 1227 على ضفاف دجلة في بغداد، ومعظمها ما زال قائماً وسبق بولونيا، أول جامعة أقيمت في أوروبا عام 1088.
ثمة فرق أساسي بين العلم في ظل الحضارة العربية الإسلامية، التي أفل نجمها، وكان يسعى إلى البحث عن ملكوت الله في الآفاق والأنفس، والعلم الحديث الذي نشأ في أوروبا على صهوة ثورة فكرية تسعى إلى التمكن من الطبيعة من أجل ترويضها لمصلحة الفرد وراحته المادية. يلخص ذلك الزعيم الأمريكي مارتن لوثر كينغ (1929-968) حين قال: "لقد تفوقت قوة العلم في الغرب على عظمة الروح، فأصبح لديه صواريخ موجهة ورجال ضالين"، أما التكنولوجيا، وليدة هذا العلم، فيصفها الروائي الإنجليزي ألدوس هكسلي (1894–1963)، بالقول: "إنها توفر للإنسان وسائل فعالة للتخلف والعودة إلى الوراء، إنها تتجاوز الإنسانية بإصرار". إن العلم اليوم ينحرف عن مساره، رغم الفتوحات التكنولوجية العظيمة التي حققها الغرب، فهو كذلك وقع في قبضة السيف، بل أصبح السيف ذاته، مسلطاً على رقبة الإنسان الذي يفترض أن يخدمه ويسهر على راحته؛ وأصبح يعاني اشكالية وصفها الفلكي الشهير كارل ساغان (1934-1996) حين قال: "نحن نعيش في مجتمع يعتمد بشكل رائع على العلم والتكنولوجيا، حيث لا يكاد أي شخص يعرف أي شيء عن العلم والتكنولوجيا"، أو كما قال العالم الإنجليزي الفذ ستيفن هوكينج (1942-2018): "إن العلم ليس مجرد تلميذ للعقل، هو أيضاً جنين الشغف والرومانسية، هو الشعلة التي تسعى لإكتشاف الحقيقة". إن العلم محايد في حد ذاته، فهو أداة تلك الحقيقة، والسياسة تجعله خيراً أو شراً، كما شهد العالم منذ بداية القرن العشرين حروب وويلات استخدم فيها العلم أبشع استخدام عبر الأسلحة النووية والجرثومية والبيولوجية، وغيرها الكثير.
ثمة حاجة ملحة للعقل العربي اليوم أن يستفيق، فقد لبث طويلاً في كهف النواح يقارع الأمية ويداوي الضياع والإغتراب بالدعاء؛ إذ لم يدرك بعد أن مشكلته ليست مع العقيدة أو العلم بل هي مع السيف. تلك الحاجة منبعها ليس اللحاق بركب التقدم المجنون فحسب، إنما أيضاً من أجل إنقاذ االبشرية من الضلال الذي تحدث عنه مارتن لوثر كينغ، وكما رآه غاليليو (1564-1642) في بداية رحلته مع العلم: ""أن نية الروح القدس هي أن تعلمنا كيف يذهب المرء إلى الجنة، وليس إلى أي مدى تسير السماء"، أو كما ورد في القرآن: "وفوق كل ذي علم عليم".
"العلم العربي لم يبدأ بعد"، حسب الراحل عبد الحميد صبرة (1924-2013)، أستاذ تاريخ العلوم العربية في جامعة هارفارد سابقاً؛ والعقل العربي ما زال شارداً تتقاسمه ثلاثية العقيدة والغنيمة والقبيلة التى بشر بها الجابري (1935-2010)، فترقص على أنغامها قصائد هجاء تشيع العروبة، وخطب عصماء تنعي الدين بالموعظة والصراخ. أما الحيرة فتبقى تجتاح خلجات النفس، تهفو صعود الجبال إذ تعف العيش بين الحفر أبد الدهر، ترنو إلى الغار وضياء إقرأ حين تغمر صحراء الأميين ثانية بأنوار الحقيقة والحق، لعل تلك النبضة من الزمان تبغي النجاة وترقد في سكينة الخلود.
 
تابعو الأردن 24 على google news