الدولة العربية ومشروع الإنتحار
د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
بدأت معظم الدول العربية بتحقيق استقلالها بعد أفول نجم الإمبراطورية العثمانية، التي سيطرت على المنطقة على مدار 4 قرون، عقب الحرب العالمية الأولى وزوال الإنتداب الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. اتسمت مرحلة الاستقلال والبناء بالجماح والتفاؤل ورغبة العرب في إقامة مشروع النهضة والتحرر والحلم المأمول في اللحاق بركب البشرية في الإنجاز العلمي والكرامة الإنسانية وتحقيق تطلعاتهم القومية في التحرر والديمقراطية والحياة الأفضل. ساد الشعور القومي آنذاك، وامتد على مساحة الوطن العربي كلها، ونشطت الأحزاب السياسية وامتلأت الأجواء بالحماسة والنشاط، رغم الإخفاق المذهل في منع قيام دولة الكيان على أرض فلسطين. اعتبر العرب ضياع فلسطين هفوة جواد وخطأ تاريخي يمكن تصحيحه حال استكمال مشروع التحرر والنهضة عبر هزيمة فلول الاستعمار وأدواته التي خلفها في المنطقة، فهيمنت المشاعر الثورية وتحررت الجزائر من فرنسا ونجح العسكر في السيطرة على الحكم واندلعت الثورة الفلسطينية وساند الإتحاد السوفييتي، الند القوي للغرب، القضايا العربية في سعيه لكسبهم إلى جانبه في صراع الحرب الباردة. استمرت تلك الفترة الضبابية في بناء الدولة العربية التي أشرفت على الإنتهاء من تجربة الإستقلال، لغاية نكسة 1967، ويمكن تسميتها بالدولة 1.0. قرعت النكسة جرس الإنذار في الوجدان العربي وهزته في أعماقه وجعلته يترنح ويكاد يسقط؛ إذ كشفت عيوب البناء الفكري والثقافي في بنية العقل العربي وعرت الفجوة السحيقة التي تفصله عن الركب الحضاري العالمي، مثلما رسمت مصير الأجيال اللاحقة التي ما فتئت تعاني من هزيمة تلك الأيام الستة المشؤومة.
استفزت الهزيمة روح العروبة وكيانها المعنوي، فشرعت تبحث عن كبش فداء تحمله المسؤولية، وسرعان ما تخلت عن مشروعها القومي ولجأت إلى الماضي ومجد الأمة الغابر، ووجدت في الإسلام السياسي ضالتها، وبذلك وقعت فريسة المخطط الاستعماري الأمريكي، الذي كان بدأ إهتمامه في المنطقة وأبدى إعجابه في إسرائيل بالذات، فهيأ أرضية الصراع عبر التحالف مع ذلك التيار في مواجهة المد الشيوعي في العالم العربي. كان البترودولار أهم أدوات المشروع الأمريكي الجديد الذي اعتمد على غسل دماغ المواطن العربي وحوله إلى كيان استهلاكي وضيع، ضحل في الثقافة ومسلوب الإرادة، أحادي الرأي وسجين تعصبه وقطريته وطائفيته، مهزوم في داخله بعد إخفاق الثورة الفلسطينية في الإرتقاء إلى المكانة السامية للقضية وعدالتها الإنسانية. توجت تلك المرحلة في هيمنة الاستبداد السياسي والفشل في التنمية الإجتماعية الإقتصادية وتراجع العمل العربي المشترك، وإنتهت في إنهيار الإتحاد السوفييتي وغزو الكويت، وبذلك اسدل الستار عن مرحلة الدولة 2.0.
شكلت حرب الخليج الأولى مرحلة إنهيار مشروع النهضة العروبي وتلاشت آمال الأمة في نجاح العمل العربي المشترك، فنكصت الدولة العربية القطرية على عقبيها تنشد النجاة وتبني مشروعها الانعزالي الخاص بها. وفي الوقت ذاته، شرع الغرب في القضاء على مشروع الإسلام السياسي، بعد أن استنفذ غايته في القضاء على المشروع العروبي، وحوله إلى أداة إجهاض لأي محاولة جديدة للنهوض والتحرر، فإفتعل فتن الدم والقتل ووصم الإسلام بالإرهاب وشن عليه حرباً عالمية غايتها التشويه والإغتيال، وقصدها تقويض العمود الأساسي للحضارة العربية الإسلامية وتجريد العرب من قاعدتهم الثقافية والفكرية، ومن ثم ضمهم إلى أطراف المشروع الإمبريالي الغربي واستخدامهم مختبراً بيولوجياً لأسواقه ومنتجاته وحجارة لحروبه الإقتصادية والسياسية ووقوداً لمعاركه التكنولوجية القذرة. كان احتلال العراق وتدميره بمثابة الضربة القاضية للعرب، لكن الغرب لم يكتف ولم يشف غليله، فأشعل نار الفتنة ورتب ما أسماه الربيع العربي، فقضى على ما تبقى من الدولة القطرية وأعدم قادتها أو لفظهم للمنفى، مثلما كبل بقيتهم وقيدهم بسلاسل العهود والإتفاقيات، ثم قسمهم إلى شيع وطوائف ومحاور متصارعة، وبدد ثرواتهم بالنار وإراقة الدماء، وخلق لهم عدواً وهمياً استنسخه من كهوف التاريخ، وأخيراً فرض عليهم صفقة القرن مرغمين، وبذلك اسدل ستارة أخرى على مشهد العار، وأنهى بذلك مرحلة الدولة 3.0.
يقف اليوم العرب على مشارف الدولة 4.0، في ظل وضع مزري وكئيب، مفتاحه الصفقة وأداته السوق وعنوانه التكنولوجيا بكل ما تحمله الثورة الصناعية الرابعة من احتمالات وتداعيات وآثار مخيفة تشي بتحديات هائلة للعرب ودولتهم القطرية المعزولة. يطرح رئيس تحرير مجلة الإيكونمست، جون ميكلثويت والصحفي بنفس المجلة، أدريان وولدريدج، في كتابهما "الثورة الرابعة: السباق العالمي لإعادة اختراع الدولة” الذي صدر عام 2014، كيف تهدد التطورات العلمية والتكنولوجية الدولة الحديثة وتفرض عليها التغير في دورها وربما زوالها بسبب تغير طبيعة العلاقات بين الحكومات والمجتمع والأسواق والأفراد. العرب اليوم بأمس الحاجة إلى العلماء والفلاسفة والمفكرين للتصدي لهذا التحدي العظيم ولإنارة الطريق للأمة قبل فوات الأوآن، قبل الضياع والإندثار، قبل الإنتحار.