jo24_banner
jo24_banner

الإنتخابات القادمة والفرصة الأخيرة

د.عبدالله الزعبي
جو 24 :


ولد الأردن قبل مائة عام تحت وطأة ظروف دولية ملتبسة وضبابية نتجت عن زوال قوى عالمية وبروز أخرى، أدت إلى إعادة رسم خارطة المنطقة السياسية بأكملها. أمسكت بريطانيا بمعظم خيوط اللعبة ولعبت الدور الأبرز في تصميم ملامح الإقليم، فروضت الفرنسيين ووظفت العرب واستثمرت في اليهود، من أجل السيطرة وتحقيق مكاسب إستراتيجية بعينها. كان قيام شرق الأردن أحد أهم انجازات بريطانيا التي تحالفت مع الملك عبدالله الأول في قيادة الدولة الوليدة حينها، وقبل سقوط مملكة والده في الحجار بأربعة أعوام، فأيدته بالمال وأمدته بالموظفين والعسكر وزودته بالسلاح، وفوق ذلك وضعت البلاد تحت الإنتداب والإدارة المباشرة. أنشأ الإنجليز الفيلق العربي، الذي تحول بعدها إلى الجيش العربي، وتولوا قيادته وضموا أبناء البادية لصفوفه، وأقاموا جهاز الدولة البيرقراطي، بالتعاون مع العرب الذين لجأوا للبلاد، وقليل من أبناء العشائر القاطنة شرق النهر.

واجه الملك عبدالله الأول صعاباً هائلة في ترسيخ حكمه على بلد يكاد يخلو سوى من بعض القبائل والعشائر، مع موارد طبيعية قليلة ومياه شحيحة وأرض زراعية محدودة، وشعب شبه أمي حين ترك لمئات السنين دون رعاية أو تعليم يذكر. كما واجه الملك معارضة شديدة من زعماء العشائر بإعتباره غريباً عنهم وبسبب تحالفه مع الإنجليز وإرتيابهم من حقيقة موقفه من اليهود بسبب الضغوط التي تعرض لها من الإنجليز حول حتمية قيام دولة صهيونية في فلسطين في نهاية المطاف. واجه الملك كذلك صعوبات في التعامل مع خصومه السعوديين في الجنوب ومع الفرنسيين في سوريا، وحتى مع أخيه فيصل في العراق، وتحديداً مع اليهود الذين أعتبروا شرق الأردن جزاءً من وطنهم الموعود حسب بلفور. لقد لعب الملك عبدالله الأول على رؤوس الثعابين طوال ثلاثين عاماً، لكنه بنى الدولة وأعلن الإستقلال وضم الضفة الغربية بعد نكبة فلسطين، حتى دفع حياته ثمناً لذلك على ثراها في نهاية الأمر.

ظروف حكم حفيدة الحسين لم تكن سهلة كذلك؛ إذ تعرض للإغتيال والإنقلاب مراراً، ولاقى العداء من بعض الدول العربية، وخسر الضفة الغربية في حرب النكسة، وجر لحرب كادت أن تكون أهلية، وتعرض لإنتفاضات داخلية وإخفاقات دولية. وهو الآخر لعب على رؤوس الثعابين، لكنه تمكن من استكمال بناء دولة عصرية تمتلك البنية التحتية والطاقات البشرية والسمعة الحسنة، وكسب ثقة شعبه ومحبته، وحاز على مكانة دولية قلما يحظى بها زعيم. ومثل جده، بقيت علامات الإرتياب جاثمة على الظنون حول علاقة الملك الحسين مع قادة اسرائيل وطبيعتها، حتى حسمت المسألة بمعاهدة عربة عام 1994، وقد شفعت له شعبيته ذلك وتجلت عند وفاته التي صدمت الشعب بأكمله.

أتخذ الملك عبدالله الثاني، منذ تولى الحكم، نهجاً جديداً يختلف عن خط والده وإرثه، فتبنى خطة تهدف إلى تحديث المملكة تعتمد على الإقتصاد الحر والنيوليبرالية، تجسدت في الخصخصة وبرنامج التحول الإقتصادي وإقتصاد السوق. تظافرت عوامل عدة، محلية وإقليمية ودولية، إلى إخفاق الخطة التي خلفت تداعيات ما زالت ماثلة إلى اليوم تتجلى في المديونية والبطالة والفساد والغلاء وغيرها، وأهمها على الإطلاق تراجع هيبة الدولة وتناقص ثقة الشعب، ليس في الحكومة فحسب، بل بالحكم الملكي والدولة نفسها. يعزى ذلك التراجع أساساً إلى إهمال مسألة الإصلاح السياسي الذي يتمثل في قيام أحزاب رصينة وأصيلة تنبع من رحم الشعب، وإنتخابات نيابية جادة ونزيهة تجري على أساس حزبي وتطرد السماسرة ورجال المال الأسود من ساحة الحكم والسياسة وإدارة الدولة، وتشكيل حكومة برلمانية تتولى الولاية العامة وتقلص صلاحيات الملك وتحد من نفاذ العائلة الحاكمة إلى شؤون الدولة.

السؤال الأصعب في تلك المعادلة هو قدرة الشعب الأردني على تحمل الإصلاح السياسي المنشود، فرغم عصامية الاردني وجده وإجتهاده وطموحه وارتفاع نسبة التعليم لديه بعد إنتشار الجامعات ووفرة الشهادات، إلا أنه يعاني من قفر ثقافي مفزع ونمطية مقلقة في التفكير وإنهزامية مخيفة أمام التغيير؛ إذ قلما يقرأ، ويعتمد على الشفاهة، ويفتقد إلى التحليل النقدي بل يرفضه، ويناقض البحث العلمي في جل مواقفه، ويدافع عن كل الشعائر الدينية بضراروة دون أن يتحلى بالمكارم التي يدعو لها الإسلام والمسيحية والقيم العربية الأصيلة، كما أنه يهوى الثرثرة ويميل للشكوى والتشكيك، وأخيراً يعشق التعصب، ذاك المرض المقدس، سواء كان تعصباً إقليمياً أو مناطقياً أو عشائرياً أو طائفياً، أو رياضياً أو كيفما شاء وشئت.

يلعب الأردن إذاً في الوقت الضائع في إقيلم يحتضر، حيث سوريا العروبة يتقاسمها الغزاة بشتى ألوانهم، ولبنان يتهاوى، والعراق يتمزق، واليمن يتشتت، ومصر تعطش وتنتظر الجفاف ونضوب النيل، والسودان يركع، وليبيا تتلاشى، والخليج تغيرت ملامحة العربية بأكملها، وإسرائيل تتقدم وتقوى وتتمدد وتعزز مكانتها وهيبتها وتتحفز للإنقضاض على السيادة والهيمنة وزعامة المنطقة، سلاحهافي ذلك أمريكيا وأداتها الصفقة. كما تستفرد اسرائيل في الأردن ونظامه السياسي عبر نزع الشرعية الدينية منه أولاً ثم السياسية لاحقاً بعد أن تهيأت الظروف الموضوعية لذلك، فالإقتصاد في حضرة الموت، والفساد يفتك بالدولة والنفوس، والمديونية مستحيلة، والأدارة العامة تائهة، والحكومة فقدت الوقار والولاية، والبرلمان تحول لمهزلة، وهيبة الدولة تضمحل لدرجة أن ثقة الشعب بها أصبحت تترنح بل تسقط.

تمثل الإنتخابات النيابية القادمة فرصة أخيرة للأردن، شعباً وحكومة ونظاماً وملكاً، للإصلاح السياسي عبر فرز برلمان جاد ونخبة سياسية جديدة من رحم الشعب، تأخذ الوطن بجدية وتؤمن به وتدافع عنه ولا تشكوه وتشكك فيه، تتسلح بالعلم والمعرفة والعمل، تعمل بالسياسة لا بالمال والتجارة والسمسرة، وتؤسس لمرحلة جديدة تحمي البلاد والعباد من مصير محتوم يتوقعه كل ذو لب ويراه ذو البصيرة. تلك مسؤولية الدولة أولا قبل الشعب الذي ينتظره مصير غامض إذا لم يخرج من جوف التعصب وكهف اللامبالاة ومغارة الجهل المعتمة. 

واجب الشعب اليوم أن يصبح شعباً، لا مجرد مجاميع عصبية فحسب، وعلى الأردني من أصول غرب النهر أن يخرج من حالة الفصام الوجداني التي يعيشها ويواجه حقائق التاريخ الذي لا يرحم، فحلم فلسطين لن يتحقق إلا بأردن أقوى وكفى، وعلى الأردني من أصول شرق النهر أن يدرك أن الحسين قد قضى وماتت معه الدولة الرعوية، بل تحولت إلى ريعية، لأن العالم تغير وأصبح معولماً ومستوحشاً تسوده شريعة الغاب وصراع البقاء. كما أن واجب "نخب الدولة" وأدواتها أن تكف عن الفوقية والتباكي وإحتكار الولاء للوطن وإتهام المواطن بالتقصير والرخص، فهي التي صنعته، بل أرادته كذلك.

يؤكد مؤلفا كتاب "لماذا تفشل الأمم"، دارون عاصم أوغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجيمس روبنسون من جامعة هارفارد، أن الأمم تنجح فقط عندما تبني مؤسسات سياسية ديمقراطية شاملة وعادلة وشفافة، وتفشل عندما تستحوذ فئة ما على كل شيء، وذاك هو سر نجاح الأمم من فشلها. 

بداية الطريق تبدأ هنا، بالبرلمان تحديداً، عبر تطهيره من الطفيليات، وكنس الأمية السياسية من عقلية الحكومة وأزلامها، والخطوة الأولى تأتي من الشعب التائه بأخذ الدولة مأخذ الجد، وحمايتها بالتفكير المنطقي المتعقل، والتصالح مع النفس، وبغير ذلك فعليه البحث عن مكان يناسبه قرب الزعتري، أو شرقاً في صحراء شمر والسرحان لبناء مخيمات الشتات والهمجية ليمارس عنجهيته وبقية عمره هناك.

وختاماً، ففكرة الديمقراطية ولدت مع الدولة نفسها عندما أختلف على طبيعة التمثيل في البرلمان الملك عبدالله الأول ورشيد طليع، أول رئيس وزراء، حيث أراد الملك برلماناً بالتعيين في حين صمم طليع على إجراء انتخابات حرة ونزيهة، ما دفعة لتقديم استقالته مرتين في غضون أربعة أشهر هي مدة ولايته، حين فشل في اقناع الملك. 

مارس الأردن لذلك الشكل الأول من البرلمان، بشبه التعيين، على مدار مائة عام، وحان اليوم الوقت لخوض غمار الخيار الثاني، وإلا على الوطن السلام.
 
تابعو الأردن 24 على google news