جائحة كورونا والفوضى الخلاقة
د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
يصف الفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف إمرسون (1803-1882) الطبيعة بأنها دائماً ما ترتدي ألوان الروح، وسرها الصبر، وعلى الإنسان مسايرة وتيرتها والمحافظة على التوازن المدهش التي تمنحه للبشرية. ذلك ما يؤكده المفكر المصري مصطفى الفقي في كتابه "فلسفة الكون وتوازن الوجود"، عام 2015، إذ يشير إلى أن الكون يرتكز على فلسفة التوازن بين الإنسان والطبيعة، وأن الكوارث والأوبئة التي اجتاحت الإنسانية عبر تاريخها تعبر ضمنياً عن اختلال معادلة ذاك الإتساق والإنسجام. الشواهد التاريخية على عبث الإنسان بالطبيعة وأخلاله بالتوازن معها عبر الحرب البيولوجية ضد الأعداء لا تحصى، منذ استخدم الآشوريون الفطر السام في تسميم آبار أعداءهم، تماماً كما فعل الرومان مع الأنباط، وحنبعل ملك قرطاج عندما وظف الأفاعي ضد الرومان، مثلما نشر جنكيز خان طاعون الماشية في حملاته الدموية، وانتهك الصليبيون كرامة الموت بإلقاء الجثث الموبؤة في معسكرات المسلمين، وأباد الأوروبيون الهنود الحمر بالجدري، وألقى اليابانيون على الصين قنابل براغيث الطاعون عام 1940، واستخدم الإنجليز الجمرة الخبيثة في جزيرة جرونارد الأسكتلندية، حتى تجلى كل ذلك في أن الأمريكيين أجروا تجارب محاكاة لحرب بيولوجية على مواطنيهم في مدينة سان فرانسيسكو عام 1950 باستخدام البكتيريا السراتية الذابلة، ومرة ثانية في تامبا عبر بكتيريا السعال الديكي عام 1979. ناهيك عن تفشي الطاعون والسل والكوليرا وغيرها الكثير بسبب التحولات الإنسانية الكبرى، تلك التي يسببها الإنسان أو الطبيعة نفسها.
شهد العالم منذ قرن ظهور سلسلة جديدة من الفيروسات اللئيمة إبتداءً من الإنفلوانزا الإسبانية (1918-1920) التي حصدت 40 مليون روح على أقل تقدير، والإنفلونزا الآسيوية (1957-1958) التي ابتدأت في الصين وأدت إلى وفاة 4 مليون إنسان، وإنفلونزا هونج كونج (1968-1969) التي أودت بحوالي 1.5 مليون إنسان، والإيدز الذي أرعب الغرب وحطم إفريقيا وقتل 39 مليون شخص منذ عام 1981. ومنذئذ توالت الفيروسات بالإنتشار، بدءً بجنون البقر عام 1986، والطيور الذي ظهر في الصين وأمريكا عام 1996، وسارس في الصين عام 2002، والخنازير في المكسيك عام 2009، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) في المملكة العربية السعودية عام 2012، وإيبولا في إفريقيا عام 2014، وزيكا في أمريكا الجنوبية في نفس العام، وأخيراً كورونا في الصين عام 2019.
جائحة الكورونا المفزعة، التي تجتاح العالم حالياً وتثير الهلع في النفوس والعقول، تحتاج إلى وقفة تأمل عميقة للوقوف على طبيعتها وسبل التعامل معها، تمهيداً للإجابة على مسببها الحقيقي، سواء كانت إنتقاماً من الطبيعة أو بفعل الإنسان ضد أخيه في هذا الكون المدهش. إن سرعة إنتشار المرض وإجتياحه معظم الدول بهذه السرعة والسهولة لأمر يثير الريبة ويصعب التصديق، وربما لم تكن الصين وحدها هي بؤرة المرض، فالطبيعة لم تكن يوماً بتلك الشراسة والقسوة التي نشهدها اليوم، وما يجري على الساحة العالمية يتنافى مع فلسفة الكون وتوازن الوجود. إن تجربة البشرية التاريخية تشير إلى أن احتمالية نظرية المؤامرة يغلب على فرضية إنتقام الطبيعة من الإنسان، رغم ما يرتبكه من فظائع وجرائم بحقها، وأن جائحة كورونا هي بفعل جهة ما نشرت الفيروس ليس في الصين فحسب وإنما في عدة بؤر منها إيران وإيطاليا، وأن أصابع الإتهام تشير إلى المستفيد مما يحدث من حالة الفوضى الدولية وتقطع أوصال العالم وعزله خلف جدران حدوده وخوفه.
الجيوستراتيجي الأمريكي ألفريد ثاير ماهان (1840-1914)، مؤلف كتاب "تأثير قوة البحر على التاريخ" عام 1890، كان تنبأ بأن القوة البحرية العظمى ستسيطر على العالم، وهو أول من صاغ مصطلح الفوضى الخلاقة عام 1902، ثم وظفه عالم الإقتصاد الأمريكي-النمساوي جوزيف شومبيتر (1883-1950) في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية" عام 1942، وناقش فيه فكرة تدمير الإقتصاد وخلق حالة عدم إستقرار تؤدي إلى التخلص من القديم وتجديد عناصر وبنى الإنتاج والإقتصاد عبر تلك الفوضى الخلاقة. إن ما يشهده العالم منذ سقوط الإتحاد السوفيتي عام 1989، وأحداث سبتمبر 2001، والحرب على الإرهاب، التي أدت إلى تحييد العالم العربي والأسلامي عن الساحة الدولية ومهدت إلى زرع قلب الغرب بأجهزة المراقبة الإلكترونية والكاميرات، وتغير بنى الإقتصاد الأمريكي وإعتماده على طباعة الدولار والأسلحة والأدوية والخدمات والسلع الإلكترونية المستهلكة، وتفشي البطالة، وأخيراً بروز الصين على ساحة المنافسة العالمية، كل ذلك ربما يدفع جهات ما في أمريكيا إلى توظيف مفهوم الفوضى الخلاقة لإعادة ترتيب العالم، وربما البيت الأمريكي نفسه.
إن ما يثير الفزع حقاً يتجلى في طبيعة العقلية الأمريكية التي يبدو أن هوليوود قد نومتها مغناطيسياً عبر سلسلة طويلة من أفلام الخيال العلمي، آهمها فيلم كونتيجن أو العدوى عام 2011، الذي يحاكي بدقة جائحة كورونا، كيف لا وقد تنبأت بها قبل ذلك رواية "عيون الظلام" للروائي دين كونتز عام 1981. الأخطر من ذلك، أن تؤدي التداعيات الإقتصادية والسياسية للوباء إلى حدوث هزات مالية وإجتماعية تؤدي إلى نقص الدواء والغذاء والرعاية الصحية نتيجة لجهود إحتواء الفيروس، وربما المجاعة، فيستثمر ترامب قانون الطواريء، الذي فرضه على البلاد مؤخراً، لبسط سيطرة اليمين الأمريكي على الحكم، ما يمهد لظهور "الأخ الأكبر"، تماماً كما وصفه جورج أورويل في روايته المشهورة "1984"، وبذلك يصبح فيروس الفوضى الخلاقة دماراً ووبالاً على الإنسان والطبيعة معاً.