jo24_banner
jo24_banner

حين يصبح البقاء للأذكى!

د.عبدالله الزعبي
جو 24 :
 "البقاء للأصلح" عبارة نشأت من نظرية التطور لعالم الأحياءالإنجليزي تشارلز داروين (1802-1889) الذي وصف آلية الانتقاء الطبيعي في كتابه "أصل الأنواع". استخدم الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر (1820-1903) هذه العبارة لأول مرة في كتاب"مباديء علم الأحياء" عام 1864، حيث رسم أوجه تشابه بين النظريات الاقتصادية ونظرية داروين البيولوجية عبر البقاء للأصلح والحفاظ على الأجناس المفضلة في صراع البقاء من أجل الحياة. يعيش العالم اليوم لحظة الحقيقة مع صراع البقاء في ظل جائحة كورونا التي بدأت تفرز الأمم طبيعياً في سباق النجاة من الوباء. برزت الصين، من رحم المعاناة، لتضيء مشعل الإنسانية في دحر كل نظريات المؤامرة، وبدت فيها أمة ذكية ومنضبطة، قيادةً وشعباً وحضارةً. إن طريقة تعامل الصين مع الوباء تثير الدهشة وتضعها في موقع قيادة البشرية؛ إذ اشتهرت الحضارة الصينية بالسلمية ونبذ التعصب والاستعلاء ونزعات السيطرة والهيمنة على الأمم الأخرى، بل وقعت نفسها فريسة للعدوان على مرالعصور، إبتداءً من غزو المغول إلى الإحتلال الياباني منذ مطلع القرن العشرين، وأخيراً محاولات أمريكيا في ترويض التنين عبر المقاطعة والحرب الإقتصادية والجرثومية. تخرج الصين اليوم منتصرة، لحظياً، في أولى المعارك، وتأخذ زمام المبادرة في إعادة ترتيب العالم الذي سيشهد تفكك منظومة العولمة القائمة على منظمات الأمم المتحدة، بمختلف هيئاتها، بما فيها مجلس الأمن الذي عجز عن مجرد الإجتماع، وكذلك الإتحاد الأوروبي الذي ترك إيطاليا وحيدة تقاوم المرض والموت، ومنظمة أوبك التي تتداعى بسبب تدهور أسعار النفط، كما سيعم التفسخ منظمات إقليمية من مثل منظمة العالم الإسلامي والجامعة العربية التي لم تنبس ببنت شفة، وحتى الهيئات الرياضية والثقافية من مثل الفيفا، والأخرى الناعمة بالمجمل.
يمثل وباء الكورونا إذاً تحدياً للعالم القائم لم يشهد له مثيلاً من قبل، ويهدد بالكساد الاقتصادي والانكفاء القومي، حيث كل دولة تصارع وحيدة، وتتقطع أوصال العولمة وتنهار معها كل المؤسسات التي تقوم عليها. الخطر الأكبر يكمن في الفوضى التي بدأت تطل على المشهد، حيث أكثر من مليار إنسان يعيشون حالياً تحت الحظر ومنع التجول، وتعطل في دورة الحياة الإقتصادية وسلسلة الإنتاج، خصوصاً الغذاء، ما قد يؤدي إلى إرتفاع جنوني في الأسعار وفقدان الوظائف وارتفاع البطالة والتضخم وعجزالدول عن تلبية متطلبات المواطنين، ناهيك عن تفشي الأمراض الأخرى وفقدان الأنظمة الصحية القدرة على مواكبة التحديات، واخيراً بروز شبح المجاعة إذا ما استمرت الكارثة لعدة أشهر. إن نجاح التجربة الصينية في الصراع مع الكورونا يستدعي الوقوف عند أهم دروسها، وأولها أن الحكومة المركزية القوية لم تتخذ أي إجراء إحترازي إلا بعد التشاور مع العلماء المختصين الذين نصحوها بالإسراع في عمليات العزل والتباعد الاجتماعي وتطبيق قانون الطواريء، وبالقوة إن لزم الأمر. ثانياً، كانت الحكومة حازمة جداً في الإجراءات الصحية والوقائية وتعاملت بشدة مع كل من يخالف التعليمات. ثالثاً، أبدى الشعب الصيني تجاوباً مذهلاً مع الجائحة، وامتثل لتعليمات الدولة في كل تفاصيلها. رابعاً، تحلت الصين، قيادة وشعباً، بالهدوء والإنضباط، ولم تنجرف وراء نزعات الفزع والخوف، ولم تحول المأساة إلى كوميديا سوداء. خامساً، وضعت الدولة خطة طوارئ محكمة وبدائل اقتصادية وحافظت على عمل سلسلة الإنتاج والغذاء.
أما الأردن، فقد تعامل بحرفية مدهشة مع الجائحة منذ بداياتها في الصين، وأبدت الحكومة مرونة فائقة في التعامل مع المستجدات، ولجأت إلى سياسة التباعد الاجتماعي لاحتواء الوباء وإبطاءه، أولاً عبر إعلان قانون الدفاع، ومن ثم إعلان حظر التجول، وصاحب ذلك سلسلة من القرارات المالية والاقتصادية الإيجابية، ما مكن الدولة من امتصاص الموجة الأولى من تداعيات الجائحة. وفي إنتظار السيناريو الأسوأ، تستدعي الظروف التفكير العميق فيما سيأتي، فالدولة وإن خرجت بنجاح من هذه التجربة المؤلمة، وستفعل، إلا أن الثمن سيكون عالياً، وقد لا تقدر على تحمله. ذلك يتطلب مجموعة من الإجراءات الإحترازية، عبر العصف الذهني ودراسة الممارسات الفضلى، خاصة الصينية، وتشكيل فرق عمل علمية متخصصة تحت إشراف الدولة، من أجل قراءة المستقبل وتداعيات الوباء على مختلف الصعد، ثم وضع السيناريوهات المحتملة التي تساعد الدولة والإنسان في عبور المحنة التي نعيش. الأردن يملك الكفاءات المؤهلة للتعامل مع المستقبل، والحياة ما بعد كورونا، والطاقات المتوافرة في الجامعات ومراكز البحث كثيرة، وجاء دورها في توظيف العلم لخدمة الدولة والمجتمع والإنسان، والأمر الآن في يد الحكومة لتضع استراتيجية علمية رصينة لمواجهة التحديات العظيمة في عالم سيصبح قريباً البقاء فيه، ليس للأصلح والأقوى فحسب، وإنما للأذكى.
 
 
تابعو الأردن 24 على google news