الأسنان والسياسة..حذار من الإهمال
قبل أيام وجدت نفسي مضطرا للتعامل إستراتيجيا مع طبيب الأسنان ،عله يصلح ما أفسده الدهر ،وتسبب به إهمالي على مدى السنون،حتى وصلت أسناني إلى درجة الإستعانة بالأجنبي "الطبيب"،وقرع بابه للتدخل.
تألمت كثيرا خلال مراحل عمل الطبيب رغم "البنج"أو المخدر،ناهيك عن صوت آلاته الزنانة ،كطائرة بدون طيار ،وهي موضة الحروب هذه الأيام.
خلال معايشة الألم وأصوات الآلات الزنانة ،ورائحة اللوازم الطبية ،سرحت بي الذاكرة المتوقدة،وغاصت بي- رغم الألم وتبعاته – في علم الإجتماع حيث عناد الأطفال ورفضهم تنظيف أسنانهم قبل النوم وبعد تناول الطعام،وميلهم أحيانا كثيرة إلى الكذب على أمهاتهم ،بأنهم نظفوا أسنانهم،وهم في حقيقة أمرهم لم يفعلوا ذلك أساسا ،بل إستعانوا بالكذب منجاة من العقاب ،علما أن ألمهم بعد الدخول في مرحلة خراب الأسنان سيكون أشدا ،كما أنهم يرفضون وبشدة الذهاب مع أولياء أمورهم إلى عيادات الأسنان خوفا من الألم وآلات طبيب الأسنان.
بعد علم الإجتماع جاء علم السياسة الذي أستندت فيه على علم الإجتماع وخرجت بنتيجة مفادها أن خراب الأسنان لم يبدأ عندي اليوم بل بدأ منذ الطفولة ،وهذا يعني أن حال العرب المايل لم يبرز لنا اليوم بل مضى عليه وقت طويل ،ولم نداو جروحنا التي إتسعت لتنزف الصديد بدلا من الدم ،وهذه مرحلة خطرة ومتقدمة ،تقتضي القطع للتخلص من الألم ووقف زحف "الغرغرينا" إلى بقية انحاء الجسم.
علم السياسة هو الذي جر علينا الويلات لأننا لم نقس الأمور بالأدوات الهندسية الصحيحة ،بل إعتمدنا على الشبر والذراع ،دون أن نكون ملمين حتى بعلم القياسات العربي،وبالتالي كانت قياساتنا مثل مقاساتنا خاطئة في البداية والنهاية ،ولم نفز شأننا شأن الآخرين الذين حسبوا لكل شيء حسابه وخططوا لكافة المراحل.
بسبب إهمالنا ،ضاعت البلاد والعباد ،وتضاعف الثمن الذي يتوجب علينا فعله،لأن الحدث ومعالجته في وقته توفر الجهد والمال ،وعليه فإن ربط الأسنان بالسياسة يجب ألا يكون مستغربا ،إذ لو أن الطفل منذ صغره إستمع إلى نصائح ذويه ومعلميه وواظب على تنظيف أسنانه وحمايتها من المؤثرات الخارجية لما وصل به الأمر وهو متقدم بالسن إلى اللجوء إلى طبيب الأسنان بعد خراب مالطا.
الإهمال والسكوت عن الألم مع الشعور بالخراب المتزايد في الأسنان،هو الذي يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه ، إذ أنني لا أتمنى حتى لمن يناصبني العداء مثل هذا الموقف ،وأن يسلم نفسه للطبيب طواعية بفعل الألم وطلبا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه،ويعمل في فيه آلاته .
مراحل علاج الأسنان طويلة وأولها صورة البانوراما وما يترافق مع ذلك من مخاطر إشعاعية ،يليها إبرة المخدر ،وألم الأسنان رغم التخدير ،ناهيك عن أصوات الآلات ،وما يحدث في تانك العملية التي تشبه الجراحة.
في تلك الحالة تكون مضطرا للتعامل مع شركة التامين ،بمعنى أنك لجأت للأجنبي كي يساعدك في التخفيف من المصاريف والكلف ،وتكون بذلك قد إستسلمت لشروطه النافذة ،تماما كما هو الحال بالنسبة للبنك وصندوق النقد الدوليين،كما أن شركات التأمين تفرض عليك أسعارها واطباءها ،وتكون مضطرا للتعامل معها والإستجابة لشروطها.
الحال العربي هذه الأيام لا يختلف عن الأسنان الخربة التي مر عليها زمن لم تشهد فيه زيارة لطبيب ،ولذلك وجدنا أنفسنا مضطرين لدفع الكلف العالية ،والإستعانة بالأجنبي وقبول شروطه السرية والعلنية ،وبتنا نتألم كثيرا ،كما هو الحال بالنسبة لمريض الأسنان رغم التخدير ،لأنه لا يوجد علاج مطلق ،بل هناك مساحة للألم حتى مع التخدير.
لو أننا داوينا جروحنا السياسية منذ أول نزف ،لما إضطررنا للتعامل مع حالتنا التي إرتقت إلى " الغرغرينا"وضرورة القطع،لكننا إرتضينا بقبول الأمر الواقع تحت شعار:ضع رأسك بين الرؤوس ،وقل يا قطاع الرؤوس،وكذلك:اليد التي لا تقدر عليها ،بوسها وإدع الله ان يكسرها.