2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عندما تركت والدي مبتسمًا تحت التراب

اسامة الرنتيسي
جو 24 : قبل سبع سنوات وفي مثل هذا اليوم الجمعة 28 حزيران 2007 غيّب الموت والدي رحمه الله، في الذكرى السنوية الأولى لوفاته كتبت مقالا في صحيفة "اوان" الكويتية، ونشر في عدة مواقع أردنية، أستميحكم عذرًا بإعادة نشره اليوم وفاء لذكراه، ولأن القلب لا يزال يدمي.
كان صباحًا مؤلمًا ليس كمثل كل الصباحات، تجمّد الدم في عروقي، عندما باغتني هاتف يُلِحُّ عليّ بسرعة الوصول إلى المستشفى.
لم تحملنِ قدماي، وارتجفت وأنا أقود السيارة مسرعًا، على أمل أن أقتنص نظرة أخيرة. رافقته لعدة أشهر في المستشفيات ومع الأطباء، كانت عيناه تريدان أن تقولا شيئًا، لكنهما لم تفعلا.
بقي صامتًا عاضًّا على الألم، بنصف ابتسامة، ارتسمت على مُحيّاه، من أجل أن يمنحنا الصبر.
يا والدي.. أنت من لا يشبهك أحد، أما أنا فيشبهني كل الأبناء، أنت من يمكنه أن ينسى أي شيء، أما أنا فلا يمكنني أن أنسى أي شيء.
أقسم أنه لو عاد الأمر لي لما سامحت، ولعدت إلى القصة الكامنة في أقبيتي، ولأقلعت عن ادعائي النسيان، ولنبشت الذاكرة، وعدت لأخذ العزاء مجددًا بك، وأعود لأتمرد على حزني وفقدي، وأطلب تعزيتي. مع أن العزاء لن يُغيّر شيئًا من جبَل الحزن في قلبي.
يا والدي.. لم تعد الأوطان قادرة على توفير كفن نظيف للكرامة المهدورة على نطع السياسة، أنشد التعزية بكثرة المشيعين، وبالقبر الفسيح الذي احتضنك، فالأرض مصابة بالتبخر، ومن يدبُّ عليها يلحقه الجذام، وأسخر من تعزيتي بولائم من الكلام، فأعلك صمتا مريبا.. تنهشني معه الرغبة في الكلام عن حب رحل، وقد أرغب في الصراخ من أجل تاريخ يتورم غثاء.. وجغرافيا تتآكل، وحدود طويلة ترسم بالدوائر المغلقة، وحواجز تخترق القلب بالليزر بحثا عن العشق المهرّب.
آهٍ يا والدي.. ففي مثل هذا اليوم يكون قد مرّ عام على فراقك.. عام هو الأقسى، والأشد وجعا.
لم تغب تلك الصورة، تأبى الذاكرة إلا أن تستحضرها كل لحظة، كنت جميلا وأنت تودعنا، كنت راصًّا على شفتك السفلى مثلما هي عادتك، عند الفرح وعند الخجل.
وضعت حملا ثقيلا على كتفي، وأنا الذي تعودت أن أضع كل أحمالي على كتفك الصامدة، طيلة عمري.
كنت دائما بكامل أناقتك وبهائك. لم ترض يوما أن يتجاوزك الصباح من دون أن تستقبله بخدين أسيلين، وبعطر يفوح فيملأ الفضاء من حولك.
سأعترف أنني كنت أغار من وسامتك وهندامك المرتب دومًا، فلقد كنت أبحث يوميا عن شيبة تغزو شاربك.. لكن من دون فائدة، فقد كنت بالمرصاد لكل ما يثقل عليك في هذه الحياة، صامدا لا تعرف الخضوع.
كنت أغار من العشق البدوي الذي كان بينك وبين والدتي أطال الله عمرها. كانت تفهم إيماءاتك قبل أن تعلنها، بل وتقرأ في وجهك ما يريد إذا ما تهلّل لضيف.
لم تخفْ لحظة من الموت، كنت تستقبله على مر سنوات المرض الطويلة، بقراءة القرآن، والصبر الجميل.
يا والدي يكاد يقتلني الحزن، ولا يغادرني رغم اتساع المسافات بيننا.
أقسم بما هو جميل في هذه الحياة، انني تركت وجه والدي مبتسما تحت التراب.
كان أخي المؤمن بأنّ هذه بشائر رحمة يبكي فرحا، وبحرقة تتقطع لها القلوب، ويحمد الله كثيرا، ويتمتم بأشياء لم أفهمها، عند لحظات الوداع الأليمة.
رحلت جسدًا، وفارقتنا صوتًا، لكن أعدك بأنني سأتمسك بكل ما تبقى لي من ذكريات الصور وبهاء المحيا وطيّب الذكر.. ما حييت.
لك الرحمة ولنا أيضا. (العرب اليوم)

osama.rantesi@alarabalyawm.net
تابعو الأردن 24 على google news