مخاض نقابة المعلمين الأخير سيقود إلى ولادة نهج جديد
نورالدين نديم
جو 24 :
خَبُرَت الحكومة التعامل مع نقابة المعلمين الأردنيين منذ نشأتها في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بطريقة ندية محاطة بكل أطر التوتر والارتباك، حتى وصلت إلى الحل ومصادرة الممتلكات وحظر كامل أنشطتها مبكرا عام 1956، لتعود عام 2012 نتيجة لحراك مهني بعد صراع ومعاناة طويلة استمرت لأكثر من عقدين من الزمن، لكنها لم تقيم تجربتها وتستقي تغذيتها الراجعة في تحديد ما عاد نفعا أو سلبا على الوطن بشكل عام وعلى العملية التعلمية التعليمية بشكل خاص.
إن من يراهن على انتهاء الأزمات ما بين الهيئات النقابية المنتخبة والحكومات المعيّنة، لم يقرأ الواقع ولم يوسع دائرة الرؤية، واكتفى بزاوية واحدة.
مع تأكيدي أن حالة الفصام والخصام بين طرفي المعادلة النقابي والحكومي ليست قدرا محتما لايمكن السيطرة عليه وتغييره، بل هي حالة منوطة بمن يتعامل معها، وما يمتلكه من صفات الوهب ومهارات الكسب، التي تمنحه القدرة على التجرد من دوافع الندية والثأرية والمصلحية، وتمكنه من إيجاد قواسم مشتركة ونقطة التقاء، حتى لو كان الاتجاه متعاكسا.
وأكاد أجزم أن مشكلتنا تكمن في أننا لا نحل المشاكل، وإنما نكنسها ونخفيها تحت سجادة الظرف، الذي سرعان ما يتبدل فيكشف ما تحته.
إن الأزمات المتتالية بين نقابة المعلمين والحكومة لن تحل بالنوايا الحسنة فقط، ولا بتعديل نمط الخطاب وهدر المفردات وكل معلقات الغزل، كما أن الاعتراف بمرارة الواقع وانعكاساته لا يكفي أيضا ما لم يرافقه خطة تنمية بضمانات تنفيذ.
إن ما يحدث الآن هنا في حالة التعامل الحكومي مع نقابة المعلمين، يعيد للأذهان ما عايشته العلاقة خلال عقود مضت وضعت فيه النقابة كفكرة مبدئية موضع التشكيك والاتهام، وهو شكل من أشكال العدمية، وتصدير الأزمات، وفقدان القدرة على الفعل من الجانب الحكومي.
فلن يجدي نفعا اشغال المعلمين بأنفسهم، ولن يكون من المفيد للوطن تشتيت الانتباه عن القضايا الاستراتيجية والتهديدات الخارجية، بالانشغال بجدلية لقمة العيش وتحسين مستوى المعيشة للمواطن.
وكلما تعاملنا في مسيرة البناء النهضوي الوطني بندية سلبية بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية، ستبقى دائرة تشتيت محصلة المجهود الوطني في البناء والنهضة على غير الهدف المنشود.
إن الحلول لجدلية العلاقة بين النقابة والحكومة ليست بالصعبة ولا المستحيلة فكل ما في الأمر أنها تتطلب شيئاً من الجدية وقبول الآخر والابتعاد عن إصدار صكوك الوطنية والانتماء، وتبييض الصفحات وتسويد الصفحات، والقدرة على الالتقاء في منتصف الطريق على قاعدة مصلحة الوطن والتي يحددها الوطن ولا يلوي عنقها أحد حسب حاجته ومصالحه، لتعزيز ثقافة الكل يربح.
وهنا لن أستخدم الخطاب العاطفي الذي فقد صلاحيته، ومل منه القارئ والسامع والمشاهد، للفت الأنظار إلى خطورة ما يجري مؤخرا من دفع باتجاه مزيد من التأزيم في العلاقة بين النقابة والحكومة، ولكني سأحادث العقل بالحجة والمنطق لأحذر بأن تقويض مؤسسة وطنية نقابية مهنية مستقلة كنقابة المعلمين، وتجريدها من وسائل قوتها المهنية، وتشتيت منتسبيها وتفكيك جمعها، سيشكل أزمة وطنية مضافة ومضاعفة، لها انعكاساتها الفورية على الحركة الاقتصادية، والبناء المجتمعي، والأمن التعليمي، وهذا مثبت في فترة الركود العمالي بعد حل النقابات والأحزاب إلى حين عودة النقابات دون المعلمين والأحزاب وحتى عودة الاحزاب والنقابات دون المعلمين، وما تجرعنا مرارة ثمرته من اتجاهات الخصخصة وبيع الأصول وتمكين الفساد، حتى وصل البل الى ذقن التعليم والصحة.
إننا بحاجة لحكومة تكنوقراط تقوم على أسس برامجية واضحة تُمنح الثقة من الشعب، والتفويض والتمكين لتنفيذ برامجها التنموية والتي تبحث عن تعزيز الموارد واسترداد الأصول وإيجاد البدائل التي تغنيها عن اقتصار الحلول على جيب المواطن محدود الدخل.
نتوافق أو نختلف فهذه سنة الله تعالى في الكون، لكن هناك فرق بين رؤية من يقف على زاوية الوطن، وبين رؤية من أشقى نفسه وأبقاها أسيرة مناكفاته الحزبية وثاراته الانتخابية، وحساباته المصلحية.
فالوطن ليس جدارية دعاية انتخابية، ولا ساحة تصفية حسابات مصلحية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينحصر بزاوية حزب أو يختزل بشخص، فهو أكبر وأجل من ذلك.
لست متشائما ولكني متفائل بأن مخاض نقابة المعلمين الأخير سيقود إلى ولادة نهج جديد، يجمع بين الصلابة والثبات وعدم المساومة على الحقوق وكذلك الحكمة والحنكة والقدرة على التفاوض، مع البقاء في مربع المهنية دون التخلي عن الهم الوطني، مما يكرس ثابتا قديما جديدا في معادلة البناء النهضوي الوطني، لا يمكن تجاوزه أو تجاهله.
سيتعافى الوطن من كورونا والفاسدين، وسيتكامل في إشراقة شمس يوم جديد ليس فيها الا حروف اسمه، تجمع ولا تفرق، وتقل خيرا أو تصمت.