تسليم السلطة في قطر ..قلب للموازين
التشبث بالسلطة،وشعار من القصر إلى السجن أو القبر ،ماركة عربية مسجلة بإمتياز،ولا أظن أن صفحة سياسية في التاريخ العربي ومنذ قيام الدولة القطرية "بضم القاف"بعد معاهدة سايكس –بيكو عام 1916 ،تشي بغير ذلك ،وتظهر أن حاكما عربيا سلم السلطة لغيره على طبق من إبتسامات هكذا ،كما فعل الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
وللإنصاف فإن الوحيد الذي فعلها قبله هو المشير سوار الذهب في السودان ،وقد تعفف عن ممارسة الحكم بعد نجاح الإنقلاب في نيسان عام 1985،وتسلم رئاسة المجلس الإنتقالي ،لكنه تنازل عن السلطة طواعية في العام التالي وسلم الحكم لرئيس حكومة السودان المنتخب الصادق المهدي،ومن ثم إعتزل السياسة وتفرغ للعمل الدعوي.
ماحدث في قطر ،قلب الموازين المتعارف عليها ،وغير من شكل المعادلة المحفورة في أذهاننا ،إذ سلم سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني السلطة ،إلى نجله سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني،بعد لقاء ذي مغزى مع أهل الحل والعقد في قطر،أطلعهم فيه على نيته التي لا رجعة فيها ،بتسليم مقاليد الحكم لنجله وولي عهده الشيخ تميم .
لم يقف الأمر عند هذا الحد ،بل وقف سمو الشيخ حمد هاشا باشا ،إلى جانب نجله ولي عهده الذي أصبح اميرا للبلاد،يستقبل المهنئين لنجله بتسلمه مقاليد الأمور في البلاد،وكأن الشيخ حمد جاء لإستقبال مهنئين بفرح أقامه ،مع أنه فقد السلطة ،أو هكذا يفترض فيه ،وبالتالي كان يتوجب عليه أن يكون عابسا أو أنه آثر الإختفاء من المشهد، وغادر إلى إحدى عواصم الغرب.
لست معنيا بما قيل وما يزال يقال من تخرصات وهرطقات عن تسليم سمو الشيخ حمد مقاليد الأمور لولي عهده سمو الأمير تميم،لأنني معني بالظاهرة نفسها ،و تداعيات تعميمها لو تغيرت طريقة التفكير السلطوي في الوطن العربي،فما جرى في قطر شدني كثيرا،ووجدت نفسي مشدودا له وأكتب عنه بعد إنتهائه ،من منطلق تعميم الفكرة وتبيان تداعياتها .
أولى تداعيات التبادل السلمي للسلطة في الوطن العربي،حفظ البلاد والعباد من الدمار والتدمير والخراب ،وحفظ الأرواح،وأكثر من ذلك زيادة الثقة بالنفس ،وتعميق حالة الشراكة السياسية بين أطراف الحكم،والشعور بالإطمئنان أن أحدا لا يمكن إقصاؤه أو تهميشه.
كان بإمكان الشيخ حمد بن خليفة ،رفض تسليم السلطة لنجله ،فهو ما يزال صاحب الولاية وعلى رأس حكمه ،ويأتمر بأوامره قادة الجيش والشرطة والأمن،فبإستطاعة هؤلاء وبالطرق العربية المعهودة ،حرف "المخطط"عن مساره ،وإبقاء الشيخ حمد أميرا للبلاد،والخروج ببيان مفاده أن ما حدث كان قضاء وقدرا.
كانت عملية التسليم سلسة ،فيما سجلت عملية الإستلام سلاسة أكبر،إذ تحدث سمو الأمير الجديد الشيخ تميم الإبن عن سمو الأمير الوالد بكل الأدب وسمو الأخلاق،ووصفه ب" سمو الأمير الوالد"،وقال عنه أنه غادر المنصب منتصب القامة ،وتمنى عليه ألا يحرمهم من النصح والمشورة ،وهذا وأيم الله قمة الأدب والأخلاق أن يعترف الإبن بفضل أبيه ،وخاصة في مجال السياسة والحكم .
كان بإمكان سمو الشيخ تميم أن يصدر بيانا بعد تسلمه مقاليد الأمور في البلاد يقول فيه أن "العهد البائد"ولى ولن يعود،ولكنه لم يفعلها بل ثبت صورة والده في أذهان الجميع،وهذا بحد ذاته دليل على أن الأمور في دولة قطر ،ليست كما يصورها أعداؤها ،ولو كانت الأمور كذلك لإنقلب الإبن على أبيه وإنتهت الأمور ببيان جديد يقول أن قطر دخلت عهدا جديدا .
لكن أهل قطر كانوا شهودا عدولا على عملية التسليم والإستلام، وباركوها ،وإعتبروا تقديم التهاني والتبريكات للأمير الجديد فرض عين،ولم يتخلف أحد قادر على ذلك،كما أن الأمير الإبن أكد إلتزامه بسياسة قطر الخارجية التي إختطها والده ،بمعنى أن ما حصل لم يكن إنقلابا أبيض أو اسودا وإنما إنتقال سلس للسلطة إقتضته ظروف المرحلة،وهي عملية مدروسة ومتفق عليها سلفا.