الأنظمة العربية.. وورطة الكيان.. وسياسة اسمها الإلهاء!
كمال ميرزا
جو 24 :
سياسة الإلهاء هي من أبجديات الأساليب الدعائية التي تلجأ إليها الأنظمة والأجهزة في زمن السلم وزمن الحرب على حدّ سواء.
الأسلوب بسيط جداً لكن فعّال؛ عندما تريد التعتيم على أمر معيّن، أو تمرير مسألة معينة بهدوء، في العتمة، دون شوشرة، ودون أن يفطن إليها الناس أو يتوقفوا عندها.. فقم بافتعال ضجة ولغط و"بَهوَرة" و"طنطنة" أو حتى هلع وفزع في الطرف المقابل من أجل لفت أنظار الناس وتشتيت انتباههم.
هذه البهورة والطنطنة المطلوبة يمكن تحقيقها بطريقتين:
الأولى، الإتيان على واقعة أو حدث أو قضية معينة (سلبية أو إيجابية)، والتركيز عليها بصورة مبالغ فيها (سلباً أو إيجاباً)، واستنفار أجهزة الإعلام الرسمية للحديث عنها بشكل مفرط، واستنفار كتّاب التدخّل السريع ونخب المرتزقة من سياسيين ومحلّلين وناشطين ومثقفين وأكاديميين وشخصيات عامّة لهذه الغاية.
والثانية اختلاق واقعة أو حدث أو قضية معيّنة، سواء أكان اختلاقاً بالمعنى الحرفي للكلمة (افتعال مشاجرة، افتعال ملاسنة عنصرية عبر وسائل الإعلام، افتعال شغب ملاعب، افتعال أزمة في سلعة معينة في الأسواق، افتعال أزمة تسعير وأسعار.. الخ)، أو القيام بأمر ما حقيقي ولكن في غير وقته وأوانه المناسبين، كإجراء انتخابات، أو رفع الدعم عن السلع، أو الاحتفاء بمناسبات وطنية معيّنة بشكل مفرط ومبالغ فيه وغير معتاد.
في حالة افتعال الوقائع والأحداث والقضايا افتعالاً يُفضّل أن يكون هذا في إطار المسائل التي تستثير الفُرقة بين الناس، وتستحثّهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على الاختلاف والصدام والتناحر!
سياسة الإلهاء هنا هي امتداد لفكرة "فرّق تسد" القديمة الجديدة، والتي تتماهى مع نظرية "المجتمعات الانقسامية" في الأنثروبولوجيا الوظيفية الإنجليزية.
بحسب هذه النظرية فإنّ هناك في طبيعة بُنية وتركيب المجتمعات "الشرقية" أو "الجنوبية" أو "النامية" أو "القَبَليّة" (سمّها أيّاً شئت) عوامل تعمل على زيادة تضامن وتكاتف وتعاضد هذه المجتمعات في لحظة (مثل الدين واللغة والفزعة)، وعوامل تؤدي إلى إضعاف وتقويض هذا التماسك والتضامن في لحظة (مثل التنافس على الشيخة والتفاخر بالأنساب).
وسياسة "فرّق تسد" التي من أدواتها الإلهاء الإعلامي تقتضي من أجل تحقيق غاياتها الخبيثة والمُغرضة الإتيان على عوامل تماسك المجتمع وتحييدها أو إضعافها وتقويضها (كإثارة لغط حول ثوابت الدين، أو التفريط باللغة وتدريسها، أو تسخيف العادات والتقاليد والتقليل من شأنها)، والإتيان على عوامل ضعف المجتمع وتفككه والتركيز عليها وتغذيتها (كإقامة انتخابات على أساس عشائري صريح أو مضمر وتوجيه نتائجها).
الحلّ السهل لكشف سياسة الإلهاء والتشتيت الإعلامي والتعامل معها هي أنّ يسأل المرء نفسه ببساطة: ماذا يحدث هناك في الظلّ؟
بمعنى، عندما يجد المرء أنّ الخطاب السياسي والإعلامي والفضاء التواصلي تضجّ فجأة بالحديث عن أمور معيّنة بشكل مفرط ومبالغ فيه، فليسأل نفسه مباشرة: ما الذي يحدث هناك في الظلّ ولا يراد لأحد التكلّم عنه؟
بكلمات أخرى، الأهمية والخطورة الحقيقية في أغلب الأحيان ليست فيما يتحدث عنه الساسة ووسائل الإعلام والفضاء التواصلي.. بل فيما لا يتحدثون عنه!
منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" وسياسة الإلهاء تُمارَس يوميّاً وبشكل حثيث عبر وسائل الإعلام.
أشهر مثال هو سؤال: "هل تُدِين ما فعلته حماس في 7 أكتوبر"؟! هذا السؤال الذي انشغلنا به طوال الشهر الأول تقريباً من حرب الإبادة والتهجير الصهيو- أمريكية، وذلك لصرف وتشتيت انتباه العالم عن حقيقة الوضع قبل هذا التاريخ، وكلّ الجرائم والموبقات والحصار والعسف والاستعمار والفصل العنصري الذي كان العدو الصهيوني يمارسه بحق غزّة والقدس وعموم فلسطين وقادت إلى "طوفان الأقصى"، وعن منحى الإبادة والتهجير الذي اتخذه "ردّ الفعل" الصهيوني منذ اليوم الأول. والأهم، للتخفيف من وقع الصفعة والهزيمة التي مُني بها الكيان الصهيوني، والتهوين من شأن المعجزة التي اجترحتها المقاومة الفلسطينية، والنصر الإستراتيجي الذي استطاعت تحقيقه منذ الساعة الأولى!
بالنسبة للعدو الصهيو- أمريكي فإنّ سياسة الإلهاء اعتمدت بشكل أساسي على لعبة المفاوضات السمجة، وعلى زيارات "بلينكين" والمسؤولين الأمريكيين الأكثر سماجة إلى المنطقة، وعلى الخلافات المسرحية بين "نتنياهو" و"بايدن"، أو الخلافات داخل معسكر عصابة الحرب الصهيونية نفسه.. كلّ ذلك من أجل المماطلة وشراء الوقت بدماء الفلسطينيين، وإتاحة المجال أمام ماكينة الإجرام الصهيونية للإمعان في جرائمها وإتمام مهمتها القذرة.
أمّا الأنظمة العربية التي تريد تمويه تواطؤها مع الأمريكي والصهيوني باعتبار أنّ القضاء على المقاومة هو هدف مشترك يجمعها بهما، وتمويه تخاذلها وتقاعسها عن نُصرة غزّة والأقصى، فقد اعتمدت سياسة إلهائها على الدبلوماسبة "النشطة" التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، أو ما أسماه البعض نفاقاً "الجهاد الدبلوماسي"، وعلى إطلاق التصريحات الرنانة (دون فعل حقيقي على الأرض طبعاً)، وعلى جهود الإغاثة الاستعراضية.
في الآونة الأخيرة شهدنا زيادة ملحوظة في جهود التشتيت والإلهاء التي تبذلها الأنظمة العربية، حتى باتت هذه الأنظمة كمن يبحث تحت أظافره عن أي حجّة أو ذريعة من أجل اختلاق "هُليله ما" تُلهي بها شعوبها، وتشغلهم بأنفسهم، وتصرفهم عن التفكير بأي شيء آخر، وتوقع بينهم الشحناء والبغضاء والفُرقة أينما كان ذلك ممكناً!
هذا الضخ الإلهائي التشتيتي ليس هدفه التمويه على ما فات، فما فات أصبح معروفاً، أو بالأحرى مفضوحاً للجميع.. بل الهدف هو التمويه على المزيد من القذارات والسفالات التي سيتم اقترافها في الفترة القادمة وترتبط بما يُسمّى "مبادرة بايدن" أو "خطة بايدن" لوقف القتال.
الكيان الصهيوني تورّط وبلغ طريقاً مسدوداً ولا بدّ من إخراجه من ورطته، خاصة بالنسبة للأنظمة التي ربطت مصيرها بمصيره، وتستمد شىرعيتها من الارتماء في حضنه وحضن السيّد الأمريكي.
ولنكن منطقيّين وصريحين، أنتَ لا تصحو في الصباح فتقرر فجأةً أن تتقدم بمقترح لوقف القتال وإحلال السلام! وخطة "بايدن"لا بدّ وأنّها قد أخذت مداها من الاستعداد والتحضير قبل الإعلان عنها رسميّاً!
جزء أساسي من هذا الاستعداد أخذ الـ OK من الأنظمة العربية على "الأدوار" و"المهام" التي ستُناط بكلّ منها في المستقبل القريب في ضوء خطة "بايدن" وتصوّراته.
والمؤشّرات الأوّلية تشير إلى أنّ هذه المهام ستكون أقذر من أي شيء سبقها، و"على عينك يا تاجر"، وذلك من أجل انتشال الكيان الصهيوني من ورطته..
ومن أجل سلب المقاومة نصرها وإنجازاتها، ومن أجل إحكام الحصار على المقاومة وتضييق الخناق عليها واستنزافها وصولاً إلى القضاء عليها نهائياً..
ومن أجل إتمام مخطط الإبادة والتهجير وتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة..
ومن أجل تكريس فكرة أن كلّ دولة عربية هي كيان منفصل قائم بحدّ ذاته لا علاقه له بما يحدث داخل أي دولة عربية أخرى إلا في حدود التعاطف الإنساني الذي يمكن أن نبديه تجاه أي دولة أخرى تقع في "الواق واق"!
السرّ في سياسة الإلهاء ليس في صعوبة كشفها وافتضاح أمرها ومراميها، فكما قلنا أساليبها بسيطة ومكشوفة ولا تنطلي على طفل صغير.
سرّ سياسة الإلهاء هو أنّ الناس أنفسهم يصرّون على التفاعل معها، و"يتواقعون" في حبائلها، ويصرّون أن تنطلي عليهم مع سبق الإصرار والترصّد.. لماذا؟ لكي يدفعوا عن أنفسهم أي التزام أخلاقي أو وخز ضمير أو إحساس بالذنب والمسؤولية!
مشكلة معركة "طوفان الأقصى" أنّها كاشفة، وأنّها مُفحمة، وأنّها مُلزِمة للحجّة، الحقّ فيها واضح وضوح الشمس، والباطل فيها واضح وضوح الشمس، والـ "ما ينبغي" فيها واضح وضوح الشمس.. فما هو سبيل الناس للتنصّل من استحقاقات ذلك كلّه؟
الجواب سهل؛ الانجرار بوعي وقصد مُضمَرين وراء مصادر الإلهاء والتشتيت التي تختلقها لهم الأنظمة وأجهزتها وأذرعها الإعلامية وقطاريزها، حتى لو أتى ذلك على شكل المزاودة باسم الوطن، وتصنّع حبّ وحرص مُفرطَين تجاهه لم يسبق وأن ترجما يوماً قبل هذا على شكل سلوك عمليّ ملموس..
أو المبالغة في الاحتفال بأي مناسبة يُطلق عليها وصف "وطنيّة" حتى وإن كانت لا تعني للمُحتفلين بها حقيقةً ما يدّعون أنّها تعنيه..
أو المبالغة في الاحتفاء بأيّ مناسبة دينية ظاهرها التقوى والإيمان والثقة بالله.. وباطنها التُقية والتواكل وعبادة الطواغيت!
لنكن صريحين مرة ثانية، الأنظمة العربية بركاكتها وتهافتها أعجز من أن تخدع الناس إلا بمقدار ما أنّ الناس أنفسهم يريدون أن ينخدعوا، وأن يُضحك عليهم، ويسوقون من أجل ذلك "الهبل" و"الغفلة" و"الاستغشام"!