الشخصيات العامة والدور الاجتماعي!
ليس في العالم المتقدم فقط ، بل في العالم الثالث أيضاً، بما فيه القارة السوداء ومجاهيلها، ينصرف السياسي المتقاعد أو من غادر موقعه بحكم التبادل السلمي للسلطة بين الأحزاب والقوى السياسية المؤثرة، إلى كتابة تجربته السياسية والانجازات التي حققها، فمنهم من يؤسس مركز للدراسات الإستراتيجية، أو يلتحق بمعاهد وجامعات عريقة، أو كليات للدراسات الدولية للعمل كمحاضر، أو الانصراف لكتابة مذكراته السياسية، والكتابة في صحف ودوريات سياسية متخصصة، تاركا للناس والتاريخ تقييم تجربته بموضوعية بعيدا عن سلطة الموقع السياسي التي قد تفرض على الأخرين "ممالأته" أو النفاق له.
أما في عالمنا العربي المسكون بالأبدية في كل شيء، يظل السياسي قابضاً على جمر العطاء وينبض بالإبداع حتى الرمق الأخير، وتظل مسيرته مستمرة من المهد إلى اللحد، رغم التهامه اليومي لحبوب الضغط والسكر والقلب، وتركيب الشبكات وعمليات القلب المفتوح مره ومرتين، والأسود الفاقع الذي يكتسي شعره الجميل مسيطر كسواد مستقبل العالم العربي، فالأبيض بالرغم من انه صنو للحكمة والخبرة التجربة ما مر عليه ولن يمر، إذ لا يوجد في ثقافتنا العربية شيء اسمه "تقاعد السياسي"، وان حدث بفعل سياسة التناوب والاسترضاء السائدة، فهو غياب مؤقت أملته ضرورات المرحلة، فلا مانع من اعتبارها "استراحة محارب" يمارس من خلالها دوره الاجتماعي على أكمل وجه.
والظاهر أن بعض الناس مولعون حد العشق بالتقرب من الشخصيات العامة وتكريمهم، واعتبار مجرد قبول احدهم دعوة أو قيادة مناسبة اجتماعية، حدث تاريخي ربما يغير موازين حياة ذلك المواطن، ويشعره بأنه إنسان يحظى باحترام وتكريم، فهو واحدا من هؤلاء المحظوظين!! وكيف لا يكون كذلك!! فقد ترأس احد مشاهير العمل العام "جاهة" خطبة نجله، أو حضر وليمة أقامها بين أهله!!.
هذه الظاهرة الجديرة بالاهتمام، والتي تستحق أن يتوقف عندها علماء الاجتماع ودراستها بعمق، ونحن في سياق تحليل شخصية الإنسان العربي ومنه الأردني بطبيعة الحال، هو هذا "الهوس" والرغبة المجنونة، في اغلب الأحيان في التقرب من السياسيين والشخصيات العامة ممن تسنموا مواقع سياسية أو غادروها مؤقتاً للاستراحة ويتم إعادة تأهيلهم لإدوار لاحقة، ولا ينزع الأردنيون عموما لتكريم المبدعين في حقولهم من علماء وأطباء واساتذة جامعات وما شابه؟!! بالرغم من أن حقيقة مواقف الناس والمجتمع من بعض تلك الشخصيات مختلفة كلياً وجذرياً، فنادرا ما يجمعوا في جلساتهم وأحاديثهم على الإشادة بواحد من هؤلاء، بل أن السائد هو الانتقاد والتشكيك الدائم بوجه حق أو بدونه على الأغلب، فالكل متهم ويقال فيه ما لم يقله "مالك في الخمر"، ولكن الأغلبية العظمى تتهافت للتقرب منهم و"تسييدهم" اجتماعيا في كل المناسبات!!.
أتابع المناسبات الاجتماعية والتي تنتشر أخبارها على المواقع الالكترونية، واقدر تلك الحميمية في التواصل بين الأردنيين فهذا فعل "محمود" و" مقدر" ويستحق "الثناء" و"الشكر"، وهو وجه من أوجه السماحة، والتواصل الاجتماعي، والخلق الأردني الطيب، وهذا بطبيعة الحال دليل على أن النسيج الاجتماعي بين الناس في بلادنا متين ومترابط وقريب، ولكنك في اغلب الأحيان تجد الدولة "بقضها وقضيضها" مجتمعة في مناسبة واحده، حتى تكاد تشعر بأن المناسبة رسمية!!، وربما أن ذات الوجوه تتكرر في كل المناسبات غالباً، وأصبح الأمر مثار استغراب واندهاش ويتحدث الناس عنه أحيانا بغمز ولمز، لا أخاله يليق ومناسب!!، وهو أيضا يستدعى طرح سؤال مهم، هل حضور السياسيين والمسؤولين عموما هذه المناسبات بشكل دائم جزء من وظيفتهم الحكومية، أو مسؤوليتهم الاجتماعية؟!!، الشواهد والممارسة تقول عكس ذلك، فهذا التواصل ينقطع بمجرد العودة للموقع السياسي والوظيفة الحكومية.
ما اكتبه اليوم، ليس من باب الانتقاد –لا قدر الله- فالكل موضع التقدير والاحترام، مهما كان موقعه أو مرجعيته، ولكن الحديث فيه بالرغم من انه قد يثير الاستياء لدى البعض، مطلوب والمصارحة واجبة، فهذه الشخصيات العامة هي من عناوين الأردن المحترمة والمقدرة، ولا نريد لأحد أن يغمز من قناة أحدا منهم.