"المعارضون والاستيزار" من يدفع الثمن؟!
إشراك بعض المعارضين في الحكم هي ممارسة سائدة في أنظمة العالم الثالث، ومنه بطبيعة الحال عالمنا العربي، وتحديداً الدول التي تسير ببطء، أو تدرج نحو التحول الديمقراطي وصولاً لمشاركة فاعلة في الحياة السياسة، فـ"يوزر" بعض المتحزبين، أو أصحاب المشاريع السياسة، ممن يمثلون "حيثية" وازنة في المجتمع، ولهم امتداد حقيقي فاعل ومؤثر ، تسعى من خلاله الأنظمة والحكومات التي تمثلها، إلى إعطاء مساحة "مضبوطة" الإيقاع من حرية المشاركة، بما ينسجم مع الخط العام للدولة وتوجهاتها السياسة والاقتصادية، وبما لا يشكل تناقضاً قد يؤدي إلى هيمنة المشروع السياسي لهذا الطرف بوضوح، وبنفس الوقت تقدم للرأي العام المحلي والعالمي، ما يشير إلى أنها حكومات تمثل ألوان الطيف السياسي الفاعلة.
والحقيقة أن الأردن بحكم الوسطية السياسية التي اعتمدها منهجاً في الحكم منذ بواكير التأسيس في عشرينيات القرن الماضي، سعى إلى استيعاب العديد ممن يمثلون حضورا سياسياً ، فدخل معارضين كثر الحكومات المتعاقبة لاسيما بعد الاستقلال، وحتى أولئك الذين سعوا في خمسينيات القرن الماضي والمد الناصري والقومي في "أوجه"، إلى إحداث تغيير جذري في بنية النظام وهيكليته، تم استيعابهم وانخرطوا في الدولة وحملوا مشروع النظام السياسي فيما بعد، والأكيد أن الرؤيا السياسية للشهيد "وصفي التل" لعب دوراً مركزياً في تلك المصالحة التاريخية فيما بعد، فأفرج عن أولئك المعارضين وكان للعديد منهم دوراً متقدما في الإدارة الأردنية والمؤسسات الأمنية لأحقاً.
ولعل هذا النمط في المشاركة السياسية ، ارتبط بوضوح بتجربة الشهيد "التل" السياسية منذ ستينيات القرن المنصرم، فادخل معارضين في حكوماته، ولعل من أبرزهم الراحلين: الشخصية القومية الوزير ذوقان الهنداوي، واليساري الوزير إبراهيم الحباشنة والشخصية القومية والنقابية الوزير سليمان الحديدي وأيضا الوزير والأكاديمي الدكتور اسحق الفرحان الشخصية القيادية البارزة في الأخوان، والمفكر القومي البعثي جمال الشاعر، وقد امتدت التجربة على تواضعها إلى حكومة المرحوم عبد الحميد شرف لاحقاً، وجميعهم كانوا يمثلون "حيثية" حقيقية وفاعلة ومؤثرة في العمل السياسي والمجتمعي وصولاً للامتداد العائلي والعشائري، وهو أمر لا يمكن إنكاره والقفز عليه، بالرغم من الهجوم الدائم على هذا النهج من أطراف عديدة تحت شعار يستتر بــ "مدنية الدولة"، ولكنه يخفي ما يخفي وراءه.
أسوق هذه الأمثلة هنا، وأنا استعرض حالات "التوزير" و"الاستيزار" السائدة في العقدين الأخيرين تحت مسمى "مشاركة" أطياف من المعارضة السياسية في الحكومات، فأجدها مع الاحترام لمن مثلها، بعيدة كل البعد عن مفهوم المعارضة، وعن التمثيل الحقيقي للرأي الأخر، فأصبح الأمر مجرد ديكور سياسي يكون العبء الحقيقي فيه على الحكومات أولاً، فأحداً لن يقتنع بأن هناك تمثيلاً معبراً باستثناء عائلة وعشيرة "معاليه"، التي ستعتبر الخطوة إصلاحية بامتياز بالنسبة لها فلقد دخلت نادي الأحلام!!، وعلى الشعب ثانياً،الذي "اتخم" بحاملي لقب "المعالي" دون أن يرى حضورا حقيقيا لمشروعهم السياسي والاقتصادي على الواقع.
هنا أرى أن الحكومات تدفع من حسابها الثمن مرتين، خصوصا عندما تكتشف بالممارسة الفعلية كفاءة صاحب المعالي !!، فمعظم هؤلاء الداخلين للحكومات سرعان ما يصبحوا "كاثوليك أكثر من البابا" ويتراجع مشروعهم السياسي بل ويختفي، لدرجة أن زملاءهم الوزراء من المحسوبين تاريخيا على النهج السياسي للدولة يفاجئوا بهذا الإيمان حد التصوف بالرؤية الرسمية، فلماذا أذن كانت المعارضة الحادة سابقاً؟!! وهو قطعاً ما لا تسعى إليه الحكومات ولا العقل المركزي للدولة، فالأكيد أنها تسعى لوجود رأي وموقف أخر أقلها أمام الرأي العام!!.
ولا أخال أغناء التجربة الديمقراطية تستوي في حالة "توزير" البعض مما لم يختارهم الشعب برلمانياً على الأقل، إذ كيف نقبل مثلاًُ، "توزير" من لم يحصل على مائة صوت عندما ترشح كنائب كما جرى في حكومات سابقه، ألا يكفي إخفاقه كنائب على عدم وجود حيثية شعبية له على الأقل!! وهي وحدة القياس المقبولة والمتوافرة "اقلها" في حالة غياب أدوات التمثيل السياسي المعمول بها والمعروفة في علم السياسة؟!!، ويمكن اعتبار الأمر منطقياً ومقبولاً لو أن "معاليه" يملك خلفية مهنية أو كان واحداً مما نسميهم "تكنوقراط" وله تجربة "وازنة" في الإدارة العامة للدولة، حينها نقر بأن الحكومات بحاجة لخبراته.
ولكن الواقع مختلف للأسف، فالمؤهل الوحيد لديه هو رفع الصوت، والاعتراض والاحتجاج والنقد لكل شيء، فالحل السحري لديه وحده، ومفتاح باب الحكمة في جعبته!!، فأصبح الأمر يدخل في باب الابتزاز السياسي للدولة لا تنكره "العين"، ولا تخطئه الشواهد والممارسة، فلا مانع أذن من التعامل معه مرحلياً وهكذا يمكن أن يفهم الأمر؟!!، عندها تصبح المعارضة بهذا المفهوم من اقصر طرق "الوصول" إلى لقب "معالي" الأكثر بريقاً في بلادنا.
ختاماً، وحتى تصل الدولة وعقلها السياسي إلى القناعة بنضوج فكرة الحكومات "البرلمانية"، ربما من الأنسب أن تستمر بالاعتماد على الكفاءات، والتكنوقراط، وأصحاب الخبرات "الوازنة" والحقيقية من مخزون الإدارة الأردنية الكبير، وعدا ذلك فسنظل نعاني من ظاهرة المعارضة المصلحية، ومن القائمة الطويلة من حاملي الألقاب والمميزات، وسيدفع المجتمع الثمن من حسابه ووقته في خلق فرص ومناسبات اجتماعية، وجاهات ومفردات تفخيم وتضخيم، وتتعزز ثقافة المنسف كمدخل للتكريم وخصوصاً من الطامحين، فنخسر ثروتنا الحيوانية في الولائم الاستعراضية، ويتضخم الشعور لديهم بأنهم صفوة الناس وخيرة المجتمع؟!! فكيف لا يكونوا كذلك، فالدولة تقول أنهم من يمثلونا؟!!.