"النخب السياسية" النجومية والنكران!
في العالم الغربي صاحب التقاليد الديمقراطية العريقة والمتجذرة، يتم تداول السلطة سلمياً بشكل سلس ودون تعقيدات، فتتشكل الحكومات على أسس حزبية وبرامجية، فالناس هناك ترصد، وتدقق، وتحاسب، ولا تحكمها عصبيات ونزعات قبلية أو طائفية، أو فئوية ، بل تحكم على الأداء بموضوعية، فيشكل الحزب الفائز بالانتخابات الحكومة بشكل كامل أو ضمن ائتلاف سياسي مع قوى وأحزاب متعددة، أو من خلال تكتلات برلمانية كبرى، وينصرف الحزب الخاسر بكل هدوء إلى موقع المعارضة ، أو يشكل ما يعرف بحكومة (الظل) كالنموذج البريطاني، أو الاسترالي، فتسير الحياة السياسية بكل هدوء ورتابة، فكل طرف له حدود مرسومة، ومحكومة بالدستور والأعراف والتقاليد الديمقراطية.
على النقيض تماما، يمكن قراءة الحالة السياسية في العالم الثالث ومنه بطبيعة الحال عالمنا العربي، حيث سادت ومنذ أن تشكلت الكيانات السياسية، واستقرت تقريبا على بنيتها الحالية، بعيد الحرب الكونية الثانية، وما أفرزته من نتائج وحقائق على الأرض، ظلت العلاقة محكومة في إطارها التقليدي، كعلاقة بين "الراعي والرعية" إذ لا يعطي هذا النمط من أساليب الحكم أهمية استثنائية لمفهوم التداول السلمي للسلطة، اقلها في الحكومات، وان كان يميل لإعطاء هامش للمشاركة تحت عنوان "الشورى"، والمشاركة المحدودة.
لذلك فان غياب مفهوم تداول السلطة سلميا على مستوى الحكومات بشكل عام، ساهم بظهور معايير جديدة ومحددات مختلفة، لمن يتبوأ المواقع المتقدمة في العمل السياسي بشكل أساسي، فظهرت مرجعيات أخرى بعيدة عن أي تراث ديمقراطي أو سياسي، فسادت ظاهرة توزير الأقارب والأصدقاء والشركاء الماليين، والأصهار، وأعضاء النادي، وحتى الخصم في لعبة الشطرنج أو الشريك في لعبة الورق، فلا برنامج ولا مشروع سياسي أو اقتصادي يمكن أن يكون القاسم المشترك بينهم، فظلت العلاقة بينهم كالرمال المتحركة، محكومة بالمصالح، سرعان ما تتغير المواقف والمعالم مع أول موجة ريح عاصفة.
تلك مقدمة طويلة استعرضتها وأنا أتابع بتمعن واستغراب واندهاش حال جملة من بعض ممن يسمون مجازاً النخب السياسة، والذي تناوبوا على السلطة، وتسلموا المواقع القيادية في بلادنا، فنراهم هذه الأيام قد اتجهوا نحو صناعة النجومية لذواتهم مستغلين الموجة السائدة وقبول الناس لكل منطق رافض وعدمي ومشكك، فالدنيا قمر وربيع وخيرعميم، طالما أنهم في مواقعهم القيادية وجالسون على مقاعدهم الوثيرة، يقودون البلد، وينيرونه بمصابيح حكمتهم، ويوجهون أهله ويطمئنون على مستقبل أطفاله؟!!، ولكنها خراب وقحط ويباب، والناس هائمون على وجوههم لان لا مشروع يحمله من خلفهم في الموقع، ورغم أن رائحة عطر بعضهم ما زالت عالقة بالمقعد الوزاري الذي غادره قبل وقت قصير، وهو ذاته يعلن بان الوقت يمر سريعا دونما أن نرى انجازا يسجل لمن جاء بعده ، علما بأنه قضى ردحاً طويلاً من الزمن في موقع المسؤولية، لم يحمل لنا سوى انجازا وحيد وهو تأمين أفراد العائلة الملهمة بمواقع تضمن لها أن تبقى جزءً من الحالة الفلكلورية في توارث المهن على الطريقة العثمانية أيام حكمهم لبلادنا قروناً عديدة؟!!.
ترددت كثيراً في الكتابة في هذا الأمر، ولكن ما أتابعه في السنتين الأخيرتين دفعني للكتابة، وأنا استمع تصريحات إعلامية أو مقالات ناقده أو مشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي، ورفض عدمي وشكوى دائمة وقراءة أي موقف بلغة مؤامراتية، تزداد الحدة فيه عقب أي تشكيل حكومي أو تشكيل لمجلس أعيان، ولكن سرعان ما يتغير الموقف بمجرد الحصول على المبتغى والعودة لأي موقع، للتنعم بالسلطة ومكاسبها وفخامتها، لا سيما وان البقاء خارج الدائرة كارثة بالنسبة لهم والبعد عن الأضواء موت بطيء، ولأن بعض الطامحين يساهمون بشكل واضح في تضخيم بعض من حملتهم الأقدار والفرص لمواقع متقدمة في الإدارة بشكل عام، حتى يشعر المواطن العادي وكأنه يقف أمام مخلوقات فضائية قادمة من كوكب أخر!!.
ولا أبالغ أذا قلت بأن جزءً كبيرا من الاحتقان الذي عاشه الشارع سابقا يعود للمظالم التي حدثت من خلال هذا النمط من النخب، ممن توارثوا المواقع بحكم تلك الآلية التي أشرت إليها في البداية، فحولوا البلاد إلى عزبة للشلة-الملهمة- تنجب الوزراء والمدراء والكبار وما على البقية الباقية إلا أن تسبح بالحمد لهم صاغرة وكارهة، فتراكمت عبر رحلة الدولة هذه الصورة البائسة، فأنجبت حملا مشوهاً ها نحن نرى بعض نتائجه، من الجحود والنكران والاستقواء على الدولة في بعض الأحيان.
في هذا البلد الذي بني مع قيادته الحكيمة، بالدم والدمع، ليكون كأجمل ما تكون الأوطان، ووضعوه مع الأجداد والآباء، على خارطة الدنيا بجهد رسولي وصبر أيوبي، رغم ضيق ذات اليد وضبابية الظروف السياسية الإقليمية، لا يصح أن يظل شعار بعض النخب على طريقة الألعاب الشعبية في القرى "يا لعيب يا خريب"، ولعل اخطر ما في الأمر هو محاولة إضفاء الرمزية على البعض، مستغلين فطرة الناس وتدينهم والظرف السائد، فيقدمون أنفسهم على أنهم نبض الناس وضميرهم، وبنفس الوقت على الذين يتوزعون المناصب كعطايا فيما بينهم، أن يتذكروا أن "الأردن" وطن ودولة"، وليس "بيت شعر أو عزبة" لهم.