الفساد والزِّئبق
يسري غباشنة
جو 24 : في أحد بيوت العزاء،أخذ شخص يرغي ويزبد غاضبًا حانقًا في أنّ قريبًا له سُجِنَ؛ لأنه سرق ساعة أسطوانة غاز فقط، من المؤسسة التي يعمل بها. فقال له أحد الحضور: وهل قريبك هذا على الفئة الثالثة؟ أجاب: نعم، هل تعرفه؟ قال: لا؛ ولكن هذا ما يناسب حجمه الوظيفي، ولو طالت يداه غير الساعة لما تردد ولا توانى. فلو كان رئيس قسم لسرق الأسطوانه مع الساعة. ولو كان مديرًا لأتبعهما بالبوتغاز، ولو كان أرفع درجة لسرق المصفاة في الهاشمية.
ولكن الغريب في الأمر أنّ من سرق الساعة، والآخر الذي سرق مُكَعَّبَ الماجي، والحدث الذي سرق حبل الغسيل جميعهم قُبِضَ عليهم فورًا، وأودعوا السِّجن لأنّهم عناصر عاديّة تعيش في القاع. في حين أنّ من سرق الملايين فهم من طبيعة مختلفة؛ إنّهم من سلالة عنصر الزِّئبق؛ فالقبض عليهم بالغ الصّعوبة بسبب ألاعيبهم، وقدرتهم على استغلال منافذ ومسارب القوانين، أو بسبب الجاه والوجاهة التي اكتسبوها إما عن طريق الجينات الوراثية، أو بسبب البهلوانية التي يتقنونها بعد أن وجدوا سيركًا يلهون فيه. من خصائص الزئبق أنه سائل في بعض الحالات؛ فهل من السهولة أن تقبض بكفِّك على حفنة سائل؛ إنّه ينساب من بين أصابع القضاء كما السائل تمامًا، وفي رواية أخرى( بِمَزْلِط).
ومن خصائصه أيضًا أنه فضيُّ اللون؛ نعم، فهؤلاء لايتعاملون بالتعريفة والشِّلن، بل بالفضّة والذّهب والأرصدة والأسهم، وهلمّ جرّا. وهناك خصيصة ثالثة للزِّئبق في أنّ أبخرته سامّة؛ وهذه الأبخرة السّامة طالت جميع مفاصل المجتمع وخواصره؛ ابتداء بالاقتصاد وليس انتهاء بالمنظومة القيميّة والمجتمعيّة، حاملين راية الخصخصة التي شعارها التّحوّل الاقتصادي والاجتماعيّ. وها نحن نرى ما حلّ باقتصادنا الذي تراكمت عليه الديون والمديونية سنة إثر أخرى، وها نحن نرقب كلّ يوم ونتابع أخبار التّفكّك المجتمعيّ من عنف وشجارات بين العشائر والأسر التي كانت في يوم ما شامة على خدّ المجتمع. هذا من الناحية العلمية.
أما لُغويًّا، فالشخّص الزئبقي تُقال لمن يتقن التَّهرُّب؛ فلا غرابة إذن أن يسرقوا ثروات الوطن ويُهَرِّبوها إلى أرصدتهم في البنوك العالميّة خارج الوطن. ولا غرابة أيضًا أن يتهرّبوا من هيئة مكافحة الفساد، والقضاء وغيرهما؛ لأنّهم استطاعوا العثور على مهرب أو منفذ في هذا القانون أو ذاك، أو بسبب شبكة العلاقات التي نسجوها مع من يحمونهم ويذودون عنهم في أن تطالهم يد العدالة.
ولكن، ليس الفساد محصورًا هنا فقط؛ فمحاربةُ الفسادِ بالفسادِ فسادٌ، وتفجيرُ قنبلة لقتل صَرْصارٍ أو ذبابة فسادٌ، وإثارة الفتن والإحن أشدُ فسادًا، والمتاجرةُ بالوطن لغايات حزبيّة أو نقابيّة أو منبريّة أو هوى شخصيّ فسادٌ، وكلمةُ حقّ أو باطل يُراد بها باطلٌ فسادٌ.
الأردن ملجأ لمن لا ملجأ له؛ فلنتقِّ الله تعالى جميعًا في البقاء عليه قويًا حصينًا. إنْ طاله سوء- لاسمح الله تعالى ولا قدّر- فلن نجد أصابع ( نعظ) عليها ندمًا وحسرة، وسيخالط لقمة عيشنا دم ودمع في عيون أطفالنا، وضياع في كرامتنا. من يقرب النار سيكتوي بلهيبها ويسودّ وجهه، ومن يتوهّم أنّه يبني هرمًا بالفوضى والعنتريّات اللامسؤولة سيكتشف أنّه يبني دمارًا وحطامًا.
قال تعالى: ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. صدق الله العظيم.
ولكن الغريب في الأمر أنّ من سرق الساعة، والآخر الذي سرق مُكَعَّبَ الماجي، والحدث الذي سرق حبل الغسيل جميعهم قُبِضَ عليهم فورًا، وأودعوا السِّجن لأنّهم عناصر عاديّة تعيش في القاع. في حين أنّ من سرق الملايين فهم من طبيعة مختلفة؛ إنّهم من سلالة عنصر الزِّئبق؛ فالقبض عليهم بالغ الصّعوبة بسبب ألاعيبهم، وقدرتهم على استغلال منافذ ومسارب القوانين، أو بسبب الجاه والوجاهة التي اكتسبوها إما عن طريق الجينات الوراثية، أو بسبب البهلوانية التي يتقنونها بعد أن وجدوا سيركًا يلهون فيه. من خصائص الزئبق أنه سائل في بعض الحالات؛ فهل من السهولة أن تقبض بكفِّك على حفنة سائل؛ إنّه ينساب من بين أصابع القضاء كما السائل تمامًا، وفي رواية أخرى( بِمَزْلِط).
ومن خصائصه أيضًا أنه فضيُّ اللون؛ نعم، فهؤلاء لايتعاملون بالتعريفة والشِّلن، بل بالفضّة والذّهب والأرصدة والأسهم، وهلمّ جرّا. وهناك خصيصة ثالثة للزِّئبق في أنّ أبخرته سامّة؛ وهذه الأبخرة السّامة طالت جميع مفاصل المجتمع وخواصره؛ ابتداء بالاقتصاد وليس انتهاء بالمنظومة القيميّة والمجتمعيّة، حاملين راية الخصخصة التي شعارها التّحوّل الاقتصادي والاجتماعيّ. وها نحن نرى ما حلّ باقتصادنا الذي تراكمت عليه الديون والمديونية سنة إثر أخرى، وها نحن نرقب كلّ يوم ونتابع أخبار التّفكّك المجتمعيّ من عنف وشجارات بين العشائر والأسر التي كانت في يوم ما شامة على خدّ المجتمع. هذا من الناحية العلمية.
أما لُغويًّا، فالشخّص الزئبقي تُقال لمن يتقن التَّهرُّب؛ فلا غرابة إذن أن يسرقوا ثروات الوطن ويُهَرِّبوها إلى أرصدتهم في البنوك العالميّة خارج الوطن. ولا غرابة أيضًا أن يتهرّبوا من هيئة مكافحة الفساد، والقضاء وغيرهما؛ لأنّهم استطاعوا العثور على مهرب أو منفذ في هذا القانون أو ذاك، أو بسبب شبكة العلاقات التي نسجوها مع من يحمونهم ويذودون عنهم في أن تطالهم يد العدالة.
ولكن، ليس الفساد محصورًا هنا فقط؛ فمحاربةُ الفسادِ بالفسادِ فسادٌ، وتفجيرُ قنبلة لقتل صَرْصارٍ أو ذبابة فسادٌ، وإثارة الفتن والإحن أشدُ فسادًا، والمتاجرةُ بالوطن لغايات حزبيّة أو نقابيّة أو منبريّة أو هوى شخصيّ فسادٌ، وكلمةُ حقّ أو باطل يُراد بها باطلٌ فسادٌ.
الأردن ملجأ لمن لا ملجأ له؛ فلنتقِّ الله تعالى جميعًا في البقاء عليه قويًا حصينًا. إنْ طاله سوء- لاسمح الله تعالى ولا قدّر- فلن نجد أصابع ( نعظ) عليها ندمًا وحسرة، وسيخالط لقمة عيشنا دم ودمع في عيون أطفالنا، وضياع في كرامتنا. من يقرب النار سيكتوي بلهيبها ويسودّ وجهه، ومن يتوهّم أنّه يبني هرمًا بالفوضى والعنتريّات اللامسؤولة سيكتشف أنّه يبني دمارًا وحطامًا.
قال تعالى: ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. صدق الله العظيم.