منطق الأقليّات المذعورة
تعرّف الدِيمَاغُوجِيَا بأنها استراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة. ويشير المصطلح إلى استراتيجية سياسية للحصول على السلطة واكتساب القوة السياسية من خلال مناشدة التحيزات الشعبية بالاعتماد على مخاوف وتوقعات الجمهور المسبقة.
ربما نستطيع تلخيص الكثير حالة التنافس السياسي في الأردن بأنها حالة ديماغوجية بامتياز، فلا نجد نقاشاً أو جدلاً شديداً في الأردن حول قانون الضمان الإجتماعي، أو قانون العمل والعمّال بين النخب السياسية بقدر ما نجد نقاشاً حول مصطلحين (الحقوق المكتسبة والحقوق المنقوصة) تم إبتداعهما خصوصاً لترسيخ الحالة الديماغوجية في الصراع، ونجد أن ردّة الفعل في إصدار البيانات والبيانات المضادة التي لا تحتمل التأجيل تكون أسرع بكثير عندما يتعلق الموضوع بهذين المفهومين أكثر من أية ردة فعل تجاه أي فعل تقوم به السلطة يكرّس الظلم على أصحاب "الحقوق" المكتسبة والمنقوصة.
يتصرّف كلا الطرفين بمنطق الأقليّات المذعورة لا بمنطق المواطنين أبناء الدولة الواحدة، فالنخب التي تستغل مصطلح الحقوق المكتسبة لتخويف فئة من المواطنين من الفئة الأخرى، تستخدم الهاجس المصطنع بأن أي تغيير لطبيعة الدولة الريعية نحو دولة ديموقراطية منتجة عادلة سيجعلهم يخسرون مكتسباتهم من الوضع القائم. هذا الوضع الذي تستخدم فيه موارد الدولة لإعطاء مكتسبات لفئة دون أخرى لضمان ولائها، دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذا النهج ببساطة هو ما سيهدم الدولة من أساسها. فالموارد المتاحة حالياً دون إدارة قادرة وحكيمة وتحوّل في نهج الدولة نحو الإنتاج، غير كافية لإبقاء مكتسبات من يتم تخويفهم من خسارة حقوقهم المكتسبة على ما هي، وأكبر دليل هو ما نعيشه هذه الأيام من فشل الدولة في الإنفاق على نفسها وعيشها المستمر على أمل المساعدات الخارجية التي يمكن أن تأتي ولا تأتي.
ولعلّ الجميع يلاحظ كيف يصبح النظام أكثر حناناً مع الحراك إن نقصت المساعدات ويقسو عليه إن توافر المال الذي يعتقد النظام بأنه كافي لشراء الولاءات وإنهاء الحراك دون إنهاء التناقضات التي أدت لولادته.
الفكرة أن ما يظنّه من يتم إستفزازهم بالحقوق المكتسبة مغنماً، هو ببساطة ليس لهم وإنما لنخب خرجت منهم ولم تعد تحس بكل ما يعانونه من معاناة يتشاركون فيها مع من يتم استفزازهم بسبب حقوقهم المنقوصة، فنجد مثلاً أن أهل فقوع والقصر يمكن أن يتم استفزازهم على المقعد النيابي المخصص لمنطقتهم ويحشَّد أبناؤه ضد قانون الانتخاب حسب القائمة النسبية الذي يجعلهم يتشاركون هم وكل أبناء الكرك في اختيار ممثليهم ويعتبرون التشارك مع أبناء المحافظة خسارة لأبناء اللواء، بينما من يفوز عادةَ عن اللواء هو أول ملياردير في الأردن لا يعنيه أن يستثمر بعضاً من ثروته التي جمعها أثناء عمله في الدولة في بناء مشاريع إنتاجية لتشغيل أبناء اللواء الذي حتى الآن يحصل 836 عائلة من سكانه على معونة من وزارة التنمية الإجتماعية!! فأي حق مكتسب يخاف هؤلاء المواطنين من خسارته، أهو وظيفة سائق للباشا، أو وظيفة درجة رابعة هي أصلا من حقهم كمواطنين دون اكتساب أو فضل من أحد.
في الناحية الأخرى يخرج خطاب يستخدم هواجس فئة تتعرض لظلم ممنهج، بسبب نفس طبيعة النظام، لترسيخ حالة الذعر المتبادل القائمة، ما يتيح لفئة معينة ادعاء تمثيلها لهؤلاء المظلومين، والمدهش أن جزءاً أساسياً ممن يستخدم هذا الخطاب هم أبناء السلطة ومكوناتها الذين لم يعانوا فعلاً من الظلم الواقع على المواطنين أصحاب الحقوق المنقوصة أو المكتسبة، ويصبح هذا الخطاب وسيلة للتنازع على السلطة مع الفئة التي تدعي تمثيل أصحاب الحقوق المكتسبة، دون أن يمثّل أي منهما مصالح المظلومين من الفئتين، فكلاهما في الأغلب كانا جزءً من منظومة الحكم التي أدت لظلم كل المواطنين، واستمرارها في ترسيخ حالة الرعب بين مكوّنات المجتمع. هذا الرعب الذي يسمح مثلاً أن يعلوا خطاب يدّعي بخطأ أي تحوّل ديموقراطي في الأردن دون حل القضية الفلسطينية، ودون أن يتم الرد عليه، يؤدلج هذا الخطاب الرعب ويخلق له أتباعاَ يعيدون إنتاج وسائل استبداد السلطة المرتكزة إلى جماهير مرعوبة من بعضها.
الوصول إلى العدالة والمواطنة يستلزم إيمانا وممارسة يومية لبناء تيار شعبي حقيقي مؤمن بمعنى وضرورة استلام المواطنين للسلطة وزمام أمورهم، وليس تجمعات نخبوية تبعث برسائل تنتظر اعترافاً من النظام دون أن يعنيها مخاطبة المظلومين أنفسهم ليكونوا شركاءً لهم في معركة التغيير.
هذه المهمة لن تكون سهلة ولن تتوانى السلطة عن محاولة الالتفاف على استحقاقات التحول الديموقراطي بإعادة إنتاج أسباب إبقاء المواطنين في حالة ذعر دائمة، وستواصل السلطة استخدام خطاب الحقوق المكتسبة والمنقوصة في كل نقاش عن الحقوق الأساسية للمواطنين، لتحويل الصراع بين الظالم والمظلوم لصراع بين المظلومين أنفسهم، وتحويله بالتالي إلى صراع بين هويّتين لا يختلفان فيما بينهما إلا بمصالح من يدعيان تمثيلهما.