تفاءلوا بالشعب تجدوه
ما أن خفت المشاركة الشعبية قليلاً في هبّة تشرين ووقف المواطنون على طوابير مكاتب البريد لتقديم طلبات الحصول على الدعم حتى بدأت التعليقات من جزء من النخب المتصدرة ساحة الإعلام المجتمعي والكلام في السياسة في الأردن، تعليقات من نوع أن هذا الشعب لا يستحق أكثر مما حصل عليه، وإن أمطرت الدنيا كرامة لحمل البعض المظلات، والكثير من التعليقات المتعالية في نفس السياق.
إنتقال فرد أو مجموعة من حالة قبول وإمتنان للواقع لحالة من القبول الحيادي، ومن ثم تململ دون تعبير عن ذلك التململ، إلى التحول لرفض الواقع بشكل لفظي دون العمل على تغييره، حتى المرحلة قبل الأخيرة وهي البدء بالعمل على تغيير هذا الواقع للوصول إلى واقع جديد، وتحديد الواقع الجديد ليس عملية بتلك البساطة ولا يمكن أن تحصل بمجرد تمنيات تقوم بها النخب.
لنعيد تقييم ما حدث، صدر قرار غير مسؤول برفع أسعار المحروقات، هذا القرار كان مسبوقا بحملة إعلامية تخويفية من هبوط قيمة الدينار وإنهيار الإقتصاد، وضرورة أخذ قرارات صعبة على المواطن لكي يبقى الوطن، رغم كل هذا التخويف، خرج الناس في الشوارع في كل مدن وقرى ومخيمات الأردن دون تنظيم أو تخطيط، خرج الناس ليعبروا عن غضبهم ورفضهم للقرار، خرج الناس بالآلاف، كان هناك تنظيم من بعض الحراكات والقوى السياسية في مناطق معينة ولكن بالمجمل من خرجوا في الشوارع لم يخرج بتنظيم من أحد، وبقدر ما كان النظام مستعداً وواعياً للتحدي، كانت قوى الحراك متفاجئة بالحالة وبإتساعها.
خرج الأردنيّون بعد عشرات من السنين من التجهيل السياسي، من نظام تعليمي وإقتصادي ريعي مبني على صناعة الولاء الأعمى ويغيّب حس النقد وثقافة الإحتجاج، بعد عشرات السنين من تخويف الناس من بعضهم البعض ومن إمكانية خسارة ما تم إقناعهم أنها مكتسبات نتيجة الوضع القائم، لقد عاش الأردنيون طوال حياتهم وهم مقتنعون أن البلد تعيش على المساعدات، وحتى في أوساط المعارضة السياسية لم يتم نفي ذلك بالمطلق، وكان دوما الخلاف على أي معسكر يجب أن نعتمد في المساعدات دون التفكير بأي شكل من الإعتماد على الذات، لنكتشف أن الإنفاق العام في الأردن في آخر 12 سنة كان 55 مليار منها 6.4 فقط مساعدات خارجية جزء كبير منها مساعدات عسكرية، ومع ذلك ما زال الشعور العام بأن الأردن يعيش على المساعدات راسخا في عقول الناس، رغم كل ذلك خرج الناس إلى الشوارع وعبروا عن غضبهم.
خرج المواطنون إلى الشوارع، بعفوية وأمل وإحساس بالرغبة بتغيير ما وقع عليهم من ظلم، خرج الأردنيون دون تخطيط مسبق، في عمّان وإربد قرّرت أطراف ما أن يكون الإحتجاج على ميدان جمال عبدالناصر في عمّان ووصفي التل في أربد، ولها طبعا الحق في أن تجتهد وتقرّر المكان الذي تريد أن تحتج به، لكن هذا القرار ببساطة كان يطلب من المواطنين إستقلال وسائل المواصلات ليصلوا لمكان يعرفون أن فيه مواجهة مع الدرك أو مع مدنيين يتم إستخدامهم لمواجهة المحتجين.
ببساطة طالب بعض من نظّم الإحتجاجات الناس في أول لحظة يغادرون فيها موقع اللامبالاة والسكون، طالبوهم أن يدفعوا ثمن مادي ومعنوي ووجسدي بشكل مباشر، تركيز الفعاليات الإحتجاجية في أماكن كهذه أدى لإستنزاف الكثير من طاقات الشباب المبادر والمنظم للفعاليات وللكثير من حالات الإعتقالات وفوق ذلك الخطاب الإعلامي الذي ركز على قصص التخريب والحرق المحدودة وضخّمها مما أدى لردة فعل سلبية ممن غادروا موقع السلبية لأول مرة وخصوصاً أن هناك من رفع شعارات سياسية غير مرتبطة بالأسعار وليست مثار إجماع المقهورين من القرار، وعلينا أللا ننسى أنه في الجمعة الأولى بعد رفع الأسعار كان هناك الآلاف في الحسيني وذهبوا إلى بيوتهم بطلب ممن كان يتكلم على الميكروفون على أمل العودة إلى دوّار الداخلية ليلاً.
حالة أخرى تتفاقم في الفضاء الإفتراضي وهي إستسهال الإتهامات بين الأردنيين، حيث يستسهل المعارضون للحراك وصف كل من يؤمن بحقّه الطبيعي في التظاهر والتعبير عن الرأي بأنه يأخذ البلاد إلى الفوضى ويطالبونهم بالتوقف عن التحرك لوقف الفوضى، المدهش أنهم يطلبون من الفوضى (على فرض أننا إتفقنا على التوصيف) أن تتوقف لوحدها دون أن يطالبون من خلق الأسباب لحصولها بإلغاء أسباب حصولها من فساد وسرقة وسوء إدارة وغلاء، وفي جانب آخر يخطيء بعض الشباب الذين إكتشفوا فجأة كمية الأكاذيب التي كانوا يصدقونها عبر السنين وخرجوا عن صمتهم فجأة وانضموا للحراك، وأصبحوا يستسهلون إتهام من يختلف معهم بالرأي بأنهم سحيجة وبلطجية، ليس كل من يختلف مع الحراك سحيجاً، هناك الكثير من الأردنيين ممن لم يمروا بنفس المراحل والتجارب لتشكيل الوعي الذي مر بها شباب الحراك أو حتى الشباب الذين ليسو في الشارع ولكنهم يعبرون عن أنفسهم في الفضاء الإفتراضي، التصنيف مضر وسلبي للجميع.
من المضر جداً للحراكات أن تبقى تفكر بمنطقها الحراكي، فعليها لا أن تمثل فقط من هم في الشارع، ولكن من واجبها أن تفكر بمنطق يعطي الثقة لباقي المجتمع المتضرر من الوضع القائم ولم يغادر موقع السلبية بعد بأن الحراك يمثل فعلاً مصالحه، هذا الإحساس بالثقة ليس سهلاً، ولن يأتي بقرار ولكن سيحصل نتيجة عملية مستمرة من الممارسة والتعلم والنزول إلى الشارع بين الناس وفي حواريهم والتكلم معهم بألمهم لا بما تعتقده النخب أنه هو ما يمثل الأولويات التي يجب أن نعمل لأجلها.
عندما تحاول أن تشعل شمعة لتنير الظلام بعود كبريت ربما إن حركت عود الثقاب بسرعة بعد إشتعاله سينطفيء ولكن هذا ليس خطأ العود، إنه خطأك أنت لعدم دراستك لحركتك جيداً، ولكن كل ما يحيط بنا من ظروف إقتصادية وسياسية تقول أن علبة الكبريت ما زالت ممتلئة بأعواد الثقاب القادرة على إشعال النور والتغلّب على الظلام، الخلاصة هي ببساطة تفاءلوا بالشعب واعملوا لأجله بالتأكيد ستجدوه.