رجل يموت من أجل ربع دينار ..!
ابراهيم عبدالمجيد القيسي
جو 24 : قد ينطوي الخبر على مبالغة، من الطبيعي أن تنمو على ضفاف أية رواية متعلقة بالإثارة والجريمة، وقد يكون صحيحا «حرفيا»..
فأهلنا في الربة، تلك القرية التي لم تحدث فيها أو بين أهلها جريمة قتل واحدة، على امتداد تاريخها، سوى القتل الخطأ الذي يحدث في أي مكان وزمان، ها هي اليوم يتحدث أبناؤها عن مقدار الاغتراب الذي اعتراها، بعد أن اتسعت القرية، وضمت بين ساكنيها القدماء سكانا جدد نسبيا ..
وهي ظاهرة تحدث في كل الدنيا، حيث تتسع القرى والمدن وتنقلب وداعتها الى وحشية، حين تتسارع وتيرة الحياة دونما أدنى التفاتة من القادمين الجدد الى إرث جميل هو الرصيد الأخلاقي بل والمادي الفعلي لقرى وبوادي ومدن الأردن ..
تناقلت وسائل الإعلام المختلفة أمس الأول خبرا، يفيد بوفاة رجل خمسيني أو ستيني قتلا إثر مشاجرة في لواء القصر، وفور وصولي أمس الأول الى القرية لتشييع جثمان أميرنا سمير الزريقات، كان الأهل يأتون تباعا لالقاء التحية، ثم يتحدثون عن الجريمة التي اقترفها عامل»عربي» وافد بحق رجل بدوي من إخوتنا العزازمة في الربة، وقالوا إن سبب الخلاف ربع دينار، وكان مبعث الحديث والإثارة حوله تكمن في ما أكتب عن قريتنا الجميلة، التي أعتبرها نموذجا اجتماعيا يصلح للتعميم على أمريكا نفسها «كما قال عصام أخو سلمان الزريقات أمس الأول»، وليس فقط على الأردن، كلهم حدثوني من منطلق وجعهم وخشيتهم أن تضمحل تلك القيم «الرباوية» من خلال مثل تلك الجرائم..
أنا لا أعرف المرحوم العزّامي، ولا أعتقد أن علاقة تربطه ب»عرب أبو جمعة» الذين كانوا يقطنون بيوت الشعر غرب الربة، فهم «عزازمة الربة « الذين عرفتهم منذ طفولتي: رعيت الغنم «خلطة» مع «اسليم» ابن أبو جمعة السلالخة، وحين كانت شقيقته «اجميعة» تخرج مع الغنم، كنت ارعى غنمنا وحيدا بلا خلطة، ولم يحدث أن «علي بن ابو جمعة» رعى الغنم، كان الفتى «مدللا»، وما زال شيخا بأخلاقه، وفي شهر رمضان، كان رجال العرب «عرب أبو جمعة أعني»، يأخذون طعامهم الى «شق الشيخ»، ولا أصوات أذان تصل المنطقة آنذاك، وكان «الشيخ نفسه» يقف بجانب بيت الشعر، وعيون الأطفال والنساء من تحت «الرواق» ترقبه ..
ثم يأذن لهم بالفطور: افطروا يا عرب.. افطروا يا عرب. لم نكن نفطر على إيقاع وتوقيت أبو جمعة «التقديري»، وكان لدينا في بيت الشعر خاصتنا حيث «راديو» .. وتوقيتنا رسمي رغم بداوتنا. هل تعلمون شيئا: أنا كنت أختلط أيضا برعاة الإبل، أذكر منهم «صالح ابن غنيمة» هكذا كنا نناديه، وما زلت أحفظ عن ظهر قلب ذلك الحداء الصوتي للناقة، من أجل تهدئتها وتحفيزها لمزيد من إدرار الحليب..
«دبا.. ري ري ري رييييه..الخ» ..تدر الحليب فنتشارك و»الحوار» حليب ناقة ساخنا. على الرغم من أننا كنا نسكن في بيت شعر منعزلا عن عرب أبو جمعة، إلا أن امطيرة «أم علي» و ضرتها «أم جمعة» كانتا تمر بنا «بالتناوب» بشكل شبه يومي، كلما جاء دور إحداهن لترد بئر الماء، او كان دورها لتحطب الحطب وتجمع «الحرز»، وكنت أعرف كل أخبار «عرب أبو جمعة» من خلال تلك الجلسات النسائية، وأذكر بأننا تعشينا ليلة طعاما «لحم وخبز شراك ولبن مريس» جاء به اسليم من بيت أبيه، وذلك حين توفت الطفلة «عليا بنت امطيرة» بنت أبو جمعة وشقيقة علي..
كان أبو جمعة شيخا صارما، يدير شؤون العشيرة، ولم يكن يغضب حين كنت أمطر كلبهم «سمري» بالحجارة، بعد أن ينبح «نبحا غير مبرر» ضد كلبنا «فدعوس».. عرب أبو جمعة؛ «عزازمة» محترمون، هم جزء من نسيج الربة الاجتماعي القديم، ولا أعلم ما الذي جرى بعد «أبو جمعة» رحمه الله، كيف توافدت عربان أخرى الى الربة، وكيف اضمحلت بيوت الشعر فأصبحت بيوتا من «طوب واسمنت»، تستدير بزوايا ما عن بعضها رغم إطلالتها على نفس الشارع !.
كل المدن تشيخ، وقلة منها تتوحش، وقريتنا الجميلة تستقطب ساكنين جدد بسبب مناخها الاجتماعي والطبيعي، لكنني أخشى مثلكم، على زمن جميل، وسبب جماله المقيم هو منظومة قيم مثلى، امتازت بها الربة.. الدنيا تتغير؛ وهذه حتمية نعرفها، لكن التغيير يكون موجعا، حين تضمحل وتتقلص موسوعة الأخلاق الاجتماعية، التي كانت وما زالت قريتنا هي مصدر إشعاعها، ومضختها التي طالما روت نفوسنا بالرضا والخير والبركة والدفء. سأتزود بأرغفة من «حميش»، وأقوم برحلة تصوّف ابتداء من حلق الوادي، أمر «بمغارة نصار»، و»أتك البطين الى حادر» باتجاه «عيون سعيد»، أنصت بخشوع طفولي لصوت «الشنار»، وأرسل النظر سهاما على كهوف «سد جمعة» أتقصى صداقة مريبة، جمعت الحمام البري بغربان وعقبان السد وصقوره.. سأبقى أردد : «العجوز الدقدوقة ..ما تأكل الرز إلا بخشوقة».. وأصلي لله أن يحفظ الربة وأهلها وكتابها الأخلاقي الأردني المقدس.
ibqaisi@gmail.com
الدستور
فأهلنا في الربة، تلك القرية التي لم تحدث فيها أو بين أهلها جريمة قتل واحدة، على امتداد تاريخها، سوى القتل الخطأ الذي يحدث في أي مكان وزمان، ها هي اليوم يتحدث أبناؤها عن مقدار الاغتراب الذي اعتراها، بعد أن اتسعت القرية، وضمت بين ساكنيها القدماء سكانا جدد نسبيا ..
وهي ظاهرة تحدث في كل الدنيا، حيث تتسع القرى والمدن وتنقلب وداعتها الى وحشية، حين تتسارع وتيرة الحياة دونما أدنى التفاتة من القادمين الجدد الى إرث جميل هو الرصيد الأخلاقي بل والمادي الفعلي لقرى وبوادي ومدن الأردن ..
تناقلت وسائل الإعلام المختلفة أمس الأول خبرا، يفيد بوفاة رجل خمسيني أو ستيني قتلا إثر مشاجرة في لواء القصر، وفور وصولي أمس الأول الى القرية لتشييع جثمان أميرنا سمير الزريقات، كان الأهل يأتون تباعا لالقاء التحية، ثم يتحدثون عن الجريمة التي اقترفها عامل»عربي» وافد بحق رجل بدوي من إخوتنا العزازمة في الربة، وقالوا إن سبب الخلاف ربع دينار، وكان مبعث الحديث والإثارة حوله تكمن في ما أكتب عن قريتنا الجميلة، التي أعتبرها نموذجا اجتماعيا يصلح للتعميم على أمريكا نفسها «كما قال عصام أخو سلمان الزريقات أمس الأول»، وليس فقط على الأردن، كلهم حدثوني من منطلق وجعهم وخشيتهم أن تضمحل تلك القيم «الرباوية» من خلال مثل تلك الجرائم..
أنا لا أعرف المرحوم العزّامي، ولا أعتقد أن علاقة تربطه ب»عرب أبو جمعة» الذين كانوا يقطنون بيوت الشعر غرب الربة، فهم «عزازمة الربة « الذين عرفتهم منذ طفولتي: رعيت الغنم «خلطة» مع «اسليم» ابن أبو جمعة السلالخة، وحين كانت شقيقته «اجميعة» تخرج مع الغنم، كنت ارعى غنمنا وحيدا بلا خلطة، ولم يحدث أن «علي بن ابو جمعة» رعى الغنم، كان الفتى «مدللا»، وما زال شيخا بأخلاقه، وفي شهر رمضان، كان رجال العرب «عرب أبو جمعة أعني»، يأخذون طعامهم الى «شق الشيخ»، ولا أصوات أذان تصل المنطقة آنذاك، وكان «الشيخ نفسه» يقف بجانب بيت الشعر، وعيون الأطفال والنساء من تحت «الرواق» ترقبه ..
ثم يأذن لهم بالفطور: افطروا يا عرب.. افطروا يا عرب. لم نكن نفطر على إيقاع وتوقيت أبو جمعة «التقديري»، وكان لدينا في بيت الشعر خاصتنا حيث «راديو» .. وتوقيتنا رسمي رغم بداوتنا. هل تعلمون شيئا: أنا كنت أختلط أيضا برعاة الإبل، أذكر منهم «صالح ابن غنيمة» هكذا كنا نناديه، وما زلت أحفظ عن ظهر قلب ذلك الحداء الصوتي للناقة، من أجل تهدئتها وتحفيزها لمزيد من إدرار الحليب..
«دبا.. ري ري ري رييييه..الخ» ..تدر الحليب فنتشارك و»الحوار» حليب ناقة ساخنا. على الرغم من أننا كنا نسكن في بيت شعر منعزلا عن عرب أبو جمعة، إلا أن امطيرة «أم علي» و ضرتها «أم جمعة» كانتا تمر بنا «بالتناوب» بشكل شبه يومي، كلما جاء دور إحداهن لترد بئر الماء، او كان دورها لتحطب الحطب وتجمع «الحرز»، وكنت أعرف كل أخبار «عرب أبو جمعة» من خلال تلك الجلسات النسائية، وأذكر بأننا تعشينا ليلة طعاما «لحم وخبز شراك ولبن مريس» جاء به اسليم من بيت أبيه، وذلك حين توفت الطفلة «عليا بنت امطيرة» بنت أبو جمعة وشقيقة علي..
كان أبو جمعة شيخا صارما، يدير شؤون العشيرة، ولم يكن يغضب حين كنت أمطر كلبهم «سمري» بالحجارة، بعد أن ينبح «نبحا غير مبرر» ضد كلبنا «فدعوس».. عرب أبو جمعة؛ «عزازمة» محترمون، هم جزء من نسيج الربة الاجتماعي القديم، ولا أعلم ما الذي جرى بعد «أبو جمعة» رحمه الله، كيف توافدت عربان أخرى الى الربة، وكيف اضمحلت بيوت الشعر فأصبحت بيوتا من «طوب واسمنت»، تستدير بزوايا ما عن بعضها رغم إطلالتها على نفس الشارع !.
كل المدن تشيخ، وقلة منها تتوحش، وقريتنا الجميلة تستقطب ساكنين جدد بسبب مناخها الاجتماعي والطبيعي، لكنني أخشى مثلكم، على زمن جميل، وسبب جماله المقيم هو منظومة قيم مثلى، امتازت بها الربة.. الدنيا تتغير؛ وهذه حتمية نعرفها، لكن التغيير يكون موجعا، حين تضمحل وتتقلص موسوعة الأخلاق الاجتماعية، التي كانت وما زالت قريتنا هي مصدر إشعاعها، ومضختها التي طالما روت نفوسنا بالرضا والخير والبركة والدفء. سأتزود بأرغفة من «حميش»، وأقوم برحلة تصوّف ابتداء من حلق الوادي، أمر «بمغارة نصار»، و»أتك البطين الى حادر» باتجاه «عيون سعيد»، أنصت بخشوع طفولي لصوت «الشنار»، وأرسل النظر سهاما على كهوف «سد جمعة» أتقصى صداقة مريبة، جمعت الحمام البري بغربان وعقبان السد وصقوره.. سأبقى أردد : «العجوز الدقدوقة ..ما تأكل الرز إلا بخشوقة».. وأصلي لله أن يحفظ الربة وأهلها وكتابها الأخلاقي الأردني المقدس.
ibqaisi@gmail.com
الدستور