jo24_banner
jo24_banner

الورقة النقاشية السادسة.. تأصيل نظري عميق ومرجعي لمفهوم الدولة المدنية

باسل العكور
جو 24 :
في العلوم الانسانية لا يوجد تعريف واحد مانع جامع للمصطلحات، بل هناك تعاريف واجتهادات وآراء وهوامش لا تضيق. وتعدد التعاريف يعتبر ظاهرة صحية لها علاقة باختلاف التجارب الانسانية والاحاطات والخلفيات السياسية والفكرية ووجهات النظر ومستويات المعرفة لواضعيها. حتى انك تجد احيانا تعاريف متناقضة تماما للمصطلح ذاته، وبذلك لا يحتكر فريق او مدرسة فكرية الحقيقة ،و لا يجوز ان يورد المصطلح نظريا دون ذكر الاراء والتعاريف المتوافقة والمتعارضة ليحسم القارئ أو الباحث أو المفكر بنفسه خياراته وينحاز لتعريف يراه هو - بناء على تجربته ومعرفته ومنطقه- الأصوب والأدق.

وهذا حتما ينسحب على مصطلح "الدولة المدنية” الذي عرّف بأشكال مختلفة وأخذت كل مدرسة فكرية تتجاذبه وتوليّه شطرها، حتى بات مصطلحا متغيرا متجددا يعبر عن دلالات ومعان تختلف تماما عن تلك التي ارتبطت به منذ نشأته وحتى يومنا هذا.

الدولة المدنية في الثقافة الغربية هي الدولة التي تستقل بشؤونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة التي كانت تسيطر على السياسة وتدير شؤون الدولة في الغرب، وهذا النموذج الغربي بكل متعلقاته وملاحقه ولواقحه ليس موجودا لدينا، فلم يكن في تاريخنا السياسي القديم والمعاصر صراعا من هذا النوع بين الديني والسياسي، ولذلك نقول بانه لا يجوز ان نُتهم من قبل غيرنا بتهمة من عند أنفسهم ويحاسبوننا عليها! كما لا يجوز ان يكون الوضع السياسي البائس في بلداننا مبررا للذهاب او القفز فورا لسيناريو غربي النشأة والتطور، لنسقطه على حالتنا السياسية دون أي سياق أو ضرورة أو دون مراعاة لخصوصية الحالة العربية أو الشرقية التي تتنفس عقيدة كونها مصدر الديانات السماوية الثلاث ومجتمعاتها تبحث عن الاشباع الروحي قبل اي شئ آخر.

من غير المنطقي ابدا ان يستمرئ البعض اختزال التجربة السياسية العالمية في الخبرة الغربية، ويتعاملون معها على انها المرجعية الاهم والنموذج الذي لا يأتيه الباطل، والذي يصلح لكل زمان ومكان. هذه القداسة التي ينزلونها على هذه الخبرة ليست عاقلة وغير موضوعية..

أرجو أن لا يفهم من هذه المقدمة بأنها قدح في الدولة المدنية أو أنني لست مع الدولة المدنية بالاطلاق، لأن الاصطلاح ليس مجردا وإنما محملا بالدلالات من بيئة نشأته، وهذا بالضبط ما حسمه الملك في ورقته النقاشية السادسة التي قدم بها تأصيلا نظريا عميقا للمفهوم يتسق مع اتجاهين في تعريف المصطلح ويختلف به مع اتجاهين آخرين.

الملك اختلف مع اولئك الذين يرفضون المصطلح بشكل جذري ويتعاملون معه على انه بدعة غربية تتناقض تماما مع قيمنا وعقيدتنا، كما انه اختلف مع اولئك الذين يريدون ان يستنسخوا النموذج الغربي في التعريف ويطالبوا باسقاطه على مجتمعنا وصولا الى دولة علمانية تماما لا تعترف باي مرجعية اخرى في التشريع لغير الامة التي تشرع بمخض ارادتها وفق لما تراه متوافقا مع مصلحتها الدنيوية دون الالتفات الى موافقتها للشريعة او مخالفتها لها، وكأن هؤلاء الناس او الاغلبية في بلداننا بلا معتقد ولا يضيرهم ان يشرعوا ما يخالف شريعتهم .

الملك عبدالله في ورقته النقاشية انحاز للاتجاهين اللذين حاولا ان يوائما بين الغرب و الاسلام في تعريفهم للمصطلح أو اولئك الذين قالوا بأن الدولة المدنية هي جوهر الاسلام وحقيقته، فالدولة في الاسلام تاريخيا هي دولة مدنية تقوم بها السلطة على البيعة والاختيار والشورى، وهي دولة تحترم الاقليات وتقوم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين جميع مواطنيها وتؤمن بالتعددية السياسية والفكرية والدينية والثقافية. وهذا بالضبط ما حاول الملك توضيحه في ورقته النقاشية، الورقة المرجعية في التأصيل النظري للمصطلح.

والملك الذي يحاول وحيدا في كل محفل دولي ان يقدم الاسلام، عقيدتنا السمحة على حقيقتها -وهذا ما سيسجله التاريخ وسيظل مصدر افتخار واعتزاز لكل ابناء الامة الاسلامية- في الوقت الذي تنبري به وسائل الاعلام الغربية ودول الغرب في تشويهها وتشويه صورتها ولصقها جزافا بالارهاب معتمدين على نماذج ظلامية لا صلة لها بالاسلام البتة، تكفر وتقتل وتسبي وتعتدي على حقوق الاقليات، هو الان يقدم بنفسه تعريفه للدولة المدنية على نحو يتسق تماما مع حقائق تاريخية ثابتة وينسجم باطلاق العبارة مع الثقافة السياسية للغالبية العظمى من ابناء هذا البلد.

لقد نجح الملك في تنقية المصطلح وتطويره، ونجح في المواءمة بين المتناقضات التي يحملها المصطلح، فلم يقبل الملك بانكار حق الله في التشريع، فهو القائل "ان الدين في الدولة المدنية عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية، وهو جزء لا يتجزأ من دستورنا"، وبنفس الوقت استطاع التوفيق بين الافكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة.

الملك حسم في ورقته النقاشية السادسة الجدل الدائر حول المصطلح، وكونها ورقة نقاشية لا يعني ابدا ان يحاول البعض تحريف معانيها ودلالاتها كما فعل/ت البعض في الصحف اليومية، انها دولة مدنية بمرجعية اسلامية كما نريدها وكما يريدها الملك.

وهنا لا نجد ابلغ مما رد به الملك على دعاة العلمنة أو اولئك الذين يحاولون أن يستغلوا أو يوظفوا الدين لتحقيق مصالح واهداف سياسية أو خدمة مصالح فئوية. ولتعميم الفائدة -ولان ما قاله الملك أهم بكثير مما سقت ومما ساقه غيري من رأي حول الموضوع- اعيد نشر ما تحدث به الملك عن الدولة المدنية كما جاء في ورقته النقاشية الهامة:

سيادة القانون عماد الدولة المدنية

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الدولة المدنية، وقد حدث لغط كبير حول مفهوم هذه الدولة، ومن الواضح أنه ناتج عن قصور في إدراك مكوناتها وبنائها. إن الدولة المدنية هي دولة تحتكم إلى الدستور والقوانين التي تطبقها على الجميع دون محاباة؛ وهي دولة المؤسسات التي تعتمد نظاما يفصل بين السلطات ولا يسمح لسلطة أن تتغول على الأخرى، وهي دولة ترتكز على السلام والتسامح والعيش المشترك وتمتاز باحترامها وضمانها للتعددية واحترام الرأي الآخر، وهي دولة تحافظ وتحمي أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية، وهي دولة تحمي الحقوق وتضمن الحريات حيث يتساوى الجميع بالحقوق والواجبات، وهي دولة يلجأ لها المواطنون في حال انتهاك حقوقهم، وهي دولة تكفل الحرية الدينية لمواطنيها وتكرس التسامح وخطاب المحبة واحترام الآخر وتحفظ حقوق المرأة كما تحفظ حقوق الأقليات.

إن هذه المبادئ تشكل جوهر الدولة المدنية، فهي ليست مرادفا للدولة العلمانية، فالدين في الدولة المدنية عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم المجتمعية، وهو جزء لا يتجزأ من دستورنا. ولا يمكن أن نسمح لأحد أن يستغل أو يوظف الدين لتحقيق مصالح وأهداف سياسية أو خدمة مصالح فئوية.

ولنا أسوة في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عندما كتب ميثاق صحيفة المدينة عند هجرته إلى المدينة المنورة من أجل تنظيم العلاقة بين جميع الطوائف والجماعات فيها، ومنها المسلمون واليهود والمهاجرون والأنصار. وقد اعتبره الكثيرون إنجازا هاما للدولة الإسلامية ومعلما رئيسيا في تاريخها السياسي، كما ينظر الكثيرون إلى ميثاق صحيفة المدينة على أنه أول دستور مدني في التاريخ، حيث اعتمد على مبدأ المواطنة الكاملة، فقد ساوى بين المسلمين وغير المسلمين من حيث الحقوق والواجبات تحت حماية الدولة مقابل دفاعهم عنها. وقد شمل الميثاق محاور عدة أهمها: التعايش السلمي والأمن المجتمعي بين جميع أفراد المدينة، والمساواة بينهم جميعا فيما يتعلق بمبدأ المواطنة الكاملة من حيث المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المتعددة، واحترام وحماية حرية الاعتقاد وممارسته، والتكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب، وحماية أهل الذمة والأقليات غير المسلمة، والنصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب، وغيرها.

وجملة القول أن الدولة المدنية هي دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينية والشرعية، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر، وتُحدد فيها الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أوالموقف الفكري.

ونحن سنبقى ملتزمين بالقيم التي عُرف بها هذا الوطن منذ نشأته ولن نحيد عنها أبدا؛ فهذه القيم ميزت هذا الشعب بمختلف أطيافه، وهي قيم السلام والاعتدال والوسطية، وقيم المساواة والحرية والتعددية، وقيم الرحمة والتعاضد وقبول الآخر، وقيم المثابرة والانفتاح والمواطنة الصالحة؛ فهذه خصائص ورثناها وأصبحت من شيم الأردنيين وسنزرعها في قلوب أبنائنا إن شاء الله.
 
تابعو الأردن 24 على google news