الملك يهدم الجدار
منذ أسابيع يواظب الملك عبدالله الثاني على عقد جلسات حوارية بمنازل شخصيات سياسية أردنية، مع ممثلين لمختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، تكرس للبحث في شؤون وهموم عامة كالأزمة الاقتصادية والانتخابات، مشاركة ومقاطعة، والفساد. وتمتد الحوارات لتشمل ملفات إقليمية كالقضية الفلسطينية والأوضاع المتفجرة في سورية وعلاقات الأردن مع دول الخليج ومصر.
لكنّ الجلستين الأخيرتين للملك تعدان اختراقا غير مسبوق في الحوار الملكي الذي جمع لأول مرة نشطاء من الحراك وممثلين لقوى سياسية صاعدة ومثقفين يساريين مع جلالته.
منذ أن بدأ الحراك الشعبي في الشارع الأردني قبل عامين تقريبا، لم يتسن لممثلي هذا الطيف لقاء الملك مباشرة والحوار معه حول الأوضاع العامة في البلاد. غياب قنوات الحوار المباشر مع رأس الدولة رهن الحياة السياسية في البلاد لثنائية الدولة والإخوان. وفي ضوء الخلاف مع الحركة الإسلامية حول أجندة الاصلاح، سيطر محافظون تقليديون وليبراليون بلا خبرة في السياسة على مفاصل صناعة القرار في البلاد. بمعنى آخر أقيم جدار عازل بين الملك والقوى الاجتماعية الداعمة لبرنامجه الإصلاحي. بيد أن الملك قرر هدم هذا الجدار، وشرع في حوار مباشر مع من كانوا يصرّون حتى الأمس القريب على أنهم خصوم للملك وأعداء للدولة.
في منزل الدكتور رجائي المعشر ومن قبل في منزل أيمن الصفدي دار حوار عميق وصريح بين الملك ونشطاء في الحراك وقادة أحزاب حول أكثر الأمور حساسية في المشهد الوطني. تحدث الحضور بجراءة ومسؤولية وطنية عن الإصلاح السياسي ورفع الأسعار والفساد وأخطاء الحكومات المتراكمة، والتجاوزات الأمنية بحق الحراك والهوية الوطنية، ودور الأردن في الأزمة السورية وكل ما يخطر ببال المواطن العادي من هموم ومشاكل.
كات الملك صريحا وواثقا كعادته؛ ساجل بعمق، وعرض تصوراته للخروج من عنق الزجاجة، وبدا منفتحا على كل الأفكار التي يمكن أن تساهم في إنجاح تجربة التحول الديمقراطي والحكومات البرلمانية. وانهمك بمناقشة مساهمة الحراك والقوى الشبابية الصاعدة في بناء الأردن الجديد، وسبل دمجهم في العملية الانتخابية. كما قدم تحليلا تفصيليا للمشهد الإقليمي ومواقف الأردن من التطورات الجارية في المنطقة، خاصة في سورية وفلسطين، وجاءت كلها متطابقة مع توجهات الحضور.
العديد من المشاركين في الجلستين لم يغيروا موقفهم بعدم المشاركة في الانتخابات، لكن لم يكن هذا هو الهدف من الحوار. الأهم من ذلك هو شق قناة للحوار بين الملك والنشطاء السياسيين والحزبيين، وإدامة هذا الحوار في المستقبل.
المشاركون في الحوار مع الملك خرجوا في غاية الارتياح؛ عبّروا عما يجيش في صدورهم، وحرصوا في كل مداخلة على تأكيد التزامهم بثوابت الوطن والدستور، ووضعوا على الطاولة كل مالديهم من اقتراحات وأفكار يمكن أن تساهم في تصويب الاختلالات في مسيرة البلاد.
كان صدر الملك واسعا استمع باهتمام بالغ لكل كلمة، وأعتقد جازما أنه كان مرتاحا أيضا، فقد وجد بين يديه كنزا من الشباب المندفعين بوطنيتهم وحرصهم على مصلحة الأردن ونظامه، دون أن يبتغي أحد منهم مصلحة أو منصبا.
(الغد)