مملكة بلا ناس وناس بلا مملكة
د.حياة الحويك عطية
جو 24 : شرت صحيفة الأسبوع العربي تحقيقا عن وسط مدينة بيروت بعنوان: " الداون تاون مملكة بلا ناس ". وللصدفة تقع في يدي المجلة وأنا أنتظر أصدقاء في مقهى من مقاهي الضواحي في بيروت، أنظر حولي فإذا المقهى مكتظ، وأقرأ: " وسط بيروت مملكة بلا ناس، بين حظر خليجي واعتصام وارتدادات إقليمية وأزمات داخلية، يصرخ مستوحشا: من يعيد إليه ناسه؟ "
أفكر... لم يكن أولئك ناسه، ولم يكن هو شوارع وزقاق ناسه ... الوسط – القلب الذي كان لناسه وناسه له، دمرته الحرب، جرفته... وبعد الحرب قيل إن جهات استثمارية كانت تمول المسلحين ليدمروه كي يمكن استثماره مع إعادة الإعمار بأبخس الأثمان، ومن لم يوافق على البيع حظرت عليه رخصة الترميم . جاء الإعمار بقلي هجين، من بلاستيك، احتفل به السياح، ليس كل السياح، فأولئك الباحثون عن أصالة مشرقية لا يجدون فيه شيئا وأولئك العائدون يبحثون عن رائحة بيروت القديمة، عن رائحة ذكرياتهم لا يجدون فيه شيئا، وأولئك الذين يحبون العراقة، سواء أكانت عراقة شعبية أم عراقة نخبوية، لا يجدون فيه شيئا. كان لنوع معين من السياح، عشاق مدن العولمة المتشابهة المنمطة، جسد الشمع والبلاستيك الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة إلا رائحة غريبة تبعث على النفور والإحساس العميق بالغربة، بعدم الانتماء إلى شيء.
باعوا " الديو" وباعوا فرعه في فردان لمستثمر خليجي، كما باع أصحاب مقهى ومطعم بلاس دو ليتوال لمستثمر سعودي تقول المجلة. وما الفرق أقول أنا! ألم تقم هذه كلها لاستجلاب أموال السياح الخليجيين؟ هل كانت مصانع تشغل اللبنانيين لنبكي عليها؟ هل كانت حقولا نزرعها بالغلال أو بالورد لنبكي عليها؟ - الداون تاون مهددة بالإفلاس تقول المجلة، وتضيف أنها تكاد تكون مشلولة في غياب السائح الخليجي وإحجام اللبناني. وأقول في نفسي: الخليجي غاب لأسباب نعرفها، أما اللبناني فيحجم لأسباب قد لا يعرفها الكثيرون. لأنها غالية التكاليف – يقولون. ليس لذلك فحسب، بل لأن اللبناني لم يشعر يوما أنها له، ولم يكن يوما مرغوبا فيه وهو الذي يمكن أن يجلس طويلا أمام طلبية بسيطة، قهوة أو عصير. وحتى لو تمكن من الدفع فإن الإحساس بالغربة لم يكن لينتفي لأن المكان رقعة في ثوب مختلف اللون والقماش. ولذلك أحجم اللبناني وانكفأ إلى أحيائه القديمة أو حتى الجديدة التي تشبهه وتطل منها رائحته. اللبناني العريق بحبه للمقاهي، عاد إلى مقاهيه العريقة، إلى أحيائه، إلى بيروت التي يعرف تلك التي تشبهه، تاركا الداون تاون لمن يبحثون عن أشياء أخرى غير النرجيلة والقهوة والعصائر، غير الجلسة الحميمة الشعبوية أو النخبوية. فهل يمكن أن نتخيل أبو العبد أو أبو ملحم أو أبو طعان في الداون تاون؟ هل يمكن أن نتصور شبابا لبنانيين يريدون الحديث في شأن ثقافي أو سياسي أو حتى التسلية والمزاح يختارون الداون تاون؟ أما حديثو النعمة الذين حلا لهم لفترة التشبه بالكرام والنزول إلى الداون تاون، فقد لحقتهم الأزمة الاقتصادية وارتدوا إلى جحورهم، وارتد معهم من أصبحوا عاطلين من العمل.
أهي تجربة لبنانية؟ لا أنه درس لكل من يفكر بأن السياحة مجرد مقوم ريعي اقتصادي لا بأس في أن تجند له كل وسائل الترفيه المشروعة وغير المشروعة، وبأن الاقتصاد مجرد نشاط ترويجي مقطوع عن روح الناس وعن قدراتهم الإنتاجية والابداعية، وأن سلخ جلد الاقتصاد عن شرايين الخصوصية والهوية والإنتاج الحقيقي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الموت المؤجل. لقد سلخ جلد بيروت في وسطها، وبدلا من اسم ساحة الشهداء وسوق دبوس وشارع العازرية وسوق الطويلة وسوق إياس، صار اسمها: الداون تاون. فلتذهب داون تاون إلى الجحيم علّنا نسترجع بيروت .
العرب اليوم
أفكر... لم يكن أولئك ناسه، ولم يكن هو شوارع وزقاق ناسه ... الوسط – القلب الذي كان لناسه وناسه له، دمرته الحرب، جرفته... وبعد الحرب قيل إن جهات استثمارية كانت تمول المسلحين ليدمروه كي يمكن استثماره مع إعادة الإعمار بأبخس الأثمان، ومن لم يوافق على البيع حظرت عليه رخصة الترميم . جاء الإعمار بقلي هجين، من بلاستيك، احتفل به السياح، ليس كل السياح، فأولئك الباحثون عن أصالة مشرقية لا يجدون فيه شيئا وأولئك العائدون يبحثون عن رائحة بيروت القديمة، عن رائحة ذكرياتهم لا يجدون فيه شيئا، وأولئك الذين يحبون العراقة، سواء أكانت عراقة شعبية أم عراقة نخبوية، لا يجدون فيه شيئا. كان لنوع معين من السياح، عشاق مدن العولمة المتشابهة المنمطة، جسد الشمع والبلاستيك الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة إلا رائحة غريبة تبعث على النفور والإحساس العميق بالغربة، بعدم الانتماء إلى شيء.
باعوا " الديو" وباعوا فرعه في فردان لمستثمر خليجي، كما باع أصحاب مقهى ومطعم بلاس دو ليتوال لمستثمر سعودي تقول المجلة. وما الفرق أقول أنا! ألم تقم هذه كلها لاستجلاب أموال السياح الخليجيين؟ هل كانت مصانع تشغل اللبنانيين لنبكي عليها؟ هل كانت حقولا نزرعها بالغلال أو بالورد لنبكي عليها؟ - الداون تاون مهددة بالإفلاس تقول المجلة، وتضيف أنها تكاد تكون مشلولة في غياب السائح الخليجي وإحجام اللبناني. وأقول في نفسي: الخليجي غاب لأسباب نعرفها، أما اللبناني فيحجم لأسباب قد لا يعرفها الكثيرون. لأنها غالية التكاليف – يقولون. ليس لذلك فحسب، بل لأن اللبناني لم يشعر يوما أنها له، ولم يكن يوما مرغوبا فيه وهو الذي يمكن أن يجلس طويلا أمام طلبية بسيطة، قهوة أو عصير. وحتى لو تمكن من الدفع فإن الإحساس بالغربة لم يكن لينتفي لأن المكان رقعة في ثوب مختلف اللون والقماش. ولذلك أحجم اللبناني وانكفأ إلى أحيائه القديمة أو حتى الجديدة التي تشبهه وتطل منها رائحته. اللبناني العريق بحبه للمقاهي، عاد إلى مقاهيه العريقة، إلى أحيائه، إلى بيروت التي يعرف تلك التي تشبهه، تاركا الداون تاون لمن يبحثون عن أشياء أخرى غير النرجيلة والقهوة والعصائر، غير الجلسة الحميمة الشعبوية أو النخبوية. فهل يمكن أن نتخيل أبو العبد أو أبو ملحم أو أبو طعان في الداون تاون؟ هل يمكن أن نتصور شبابا لبنانيين يريدون الحديث في شأن ثقافي أو سياسي أو حتى التسلية والمزاح يختارون الداون تاون؟ أما حديثو النعمة الذين حلا لهم لفترة التشبه بالكرام والنزول إلى الداون تاون، فقد لحقتهم الأزمة الاقتصادية وارتدوا إلى جحورهم، وارتد معهم من أصبحوا عاطلين من العمل.
أهي تجربة لبنانية؟ لا أنه درس لكل من يفكر بأن السياحة مجرد مقوم ريعي اقتصادي لا بأس في أن تجند له كل وسائل الترفيه المشروعة وغير المشروعة، وبأن الاقتصاد مجرد نشاط ترويجي مقطوع عن روح الناس وعن قدراتهم الإنتاجية والابداعية، وأن سلخ جلد الاقتصاد عن شرايين الخصوصية والهوية والإنتاج الحقيقي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الموت المؤجل. لقد سلخ جلد بيروت في وسطها، وبدلا من اسم ساحة الشهداء وسوق دبوس وشارع العازرية وسوق الطويلة وسوق إياس، صار اسمها: الداون تاون. فلتذهب داون تاون إلى الجحيم علّنا نسترجع بيروت .
العرب اليوم