سورية وأصحاب القرار
ليس لأنه لا يفهم الدبلوماسية ، بل لانه لا يملك قراره. هكذا ببساطة يُفَسَّر تصرف مَعاذ الخطيب ازاء الدعوة الروسية، فالرجل لا يمثل نفسه ولا الشعب السوري، حتى ولو اعترفت به كل دول العالم، لأن هذا الاعتراف الذي صدر في مراكش انما هو اعتراف بالدور التركي القَطري الخليجي وليس بالائتلاف السوري. وقد قالها هيثم مناع صراحة وفي وسائل الاعلام: قال لنا عزمي بشارة في الدوحة: ما عليكم الا أن تشكلوا الائتلاف ومن ثم تركبوا الطائرات والاعتراف الدولي جاهز.
غير أن الأمر قد اختلف قليلا اليوم، فالحراك الديبلوماسي الذي يقوده الأخضر الابراهيمي برعاية روسية هو حراك يُجرى بموافقة ضمنية من الولايات المتحدة الأمريكية والتحاق ايراني وينجح في استقطاب عقلاء المعارضة والموالاة السوريين، ما يعني عمليا اخراج أوروبا من المعادلة ، خاصة فرنسا التي أحرقت كل أوراقها مع هذه الأطراف جميعا، كما يعني اخراج قطر بشكل خاص، باعتبار أن العربية السعودية قد تجد مدخلا آخر للالتحاق بركب الحل السياسي. حل لم يخف القادة الخليجيون الذين اجتمعوا في المنامة خشيتهم من أن يستتبع سياسة ثأرية تجاههم، وبالتالي فان عليهم العمل بكل قوتهم لمنعه أو عرقلته. القضية السورية خرجت كليا من السياق المحلي أو الاقليمي، وعادت الى معادلات تقاسم النفوذ. وفي اطار هذا التقاسم تتقاسم جهات متعددة فصائل ومجموعات المعارضة السورية، وفي حين يبدو معلنا وواضحا تحالف الدولة مع المحور الروسي – الصيني – الايراني ، كما هي عادة تحالفات الدول، فان شرذمة المعارضة تبدو عصية على التصنيف بحيث أصبحت فوضى القيادات -كما وصفها ميشال كيلو في جريدة السفير – " أشد وخلافاتها أسخف مما كانت عليه في أي زمن مضى. بعد أن تحولت علاقات القيادات إلى مجموعة مكائد محكمة، مفعمة بروح الغدر والإقصاء والطعن في الظهر، نتجت أولا عن حسابات متضاربة أشد التضارب، حجبتها عن الأنظار خطابات وحدة، لا قصد منها غير منع الشعب من رؤية الخلافات والاحتجاج عليها أو المطالبة بوضع حد لها، ونتجت ثانياً عن تعارض أهداف القادة، الذين تصارعوا بجميع الوسائل والأساليب ونصبوا الأفخاخ بعضهم لبعض، وعقدوا تحالفات ضد خصومهم من خارج التحالف القائم بينهم، الذي انقلب بالضرورة الى تحالف صوري لا قيمة له". وبمراجعة بسيطة لتاريخ العمل الوطني السوري نجد أن القيادات التاريخية للمعارضة السورية التي ناضلت لأجل الاصلاحات والحريات قد غابت – الا نادرا – عن المواقع القيادية في تنظيمات المعارضة الخارجية التي حاولت منذ الاجتماع الأول في قطر اقصاء رموز الداخل، كما دفعت الى الواجهة أسماء لا تاريخ لها ولا تماس لها مع الشعب السوري في همومه ومعاناته ومطالبه، وكل ما تفعله هو الاتجار بهذه الهموم لقاء مليارات النفط وامتيازات تمنحها أجهزة الدول المضيفة في الغرب، وكل ما على هذه القيادات هو القاء بضع خطب واصدار بضعة تصريحات، حتى اذا انتهت مدة الصلاحية ذهب بما جناه الى التقاعد وأوكل الأمر لسواه.
هكذا تمت ازاحة المناضلين الحقيقيين من قيادات ومن جماهير، اولئك الذين يطالبون بحياة أفضل لسورية وللسوريين، باصلاحات اقتصادية واصلاحات دستورية واطلاق الحريات والحياة السياسية ومحاربة الفساد لتصبح سورية بلدا أكثر قوة وأكثر عدالة اجتماعية وأكثر حداثة وديمقراطية، ازيحوا لصالح تجار كذبة لا يرون في التغيير الا صراعا على السلطة وتنظيمات تدميرية تكفيرية فتحت ذراعيها لكل من لا يحلم الا بتخريب البلد. ما يعزز في الطرف المقابل منطق الجناح المتطرف الذي لا يؤمن الا بالحل العسكري الامني ولا يريد الالتفات الى الاصلاح الحقيقي. واذا كان ميشال كيلو يعترف في المقال المذكور بأن " فوضى قيادات المجلس ترجع الى اختيار معظمها من قبل الخارج، وتبعيتها لمؤسسات وهيئات عابرة للوطنية، ذات ارتباط واهٍ بالوطن الذي غابت عنه لفترة طويلة جداً لم تفعل خلالها أي شيء من أجله. كما ترجع الى تدني، وبالأصح انعدام، مستواها الثقافي وتهافت مستواها السياسي، الذي جعلها تعتبر السياسة فاعلية تآمرية ترى الوطن بدلالة المصالح الشخصية ومصالح التنظيم، وتتنكر لأي التزام وطني جامع أو طويل المدى تجاه أي طرف أو قضية. وترجع، أخيرا، الى تعلقها بالسلطة بوصفها مركز وغاية أي جهد عام، وبالسياسة مفهومة كصراع على السلطة لا يعرف التهاون ولا يقر بوجود صداقات دائمة، لحمته وسداه التمييز بين المواطنين، وإجازة جميع أنواع الأساليب والوسائل التي تتيح تحقيق الهدف الخاص، مهما كانت فاسدة" فكيف يمكن لهؤلاء ان يشاركوا في مسعى من شأنه انقاذ البلد، حتى ولو نجح هذا المسعى في انتزاع تنازلات من السلطة لم تكن ممكنة فيما سبق. غير أن العقلاء موجودون في الطرفين ، وقد ادركوا انهم يقفون أمام مفترق خطير: اما الحل واما الصوملة. كما أدركوا أن حل مشكلة بلادهم لم تعد ممكنة الا في الاطار الاقليمي والدولي، خاصة وأن ثمة حدا أدنى من التفاهم يلوح في الأفق الدولي. لكنه تفاهم لن يستثني بأي حال العنصر الاقتصادي والمرتبط هذه المرة، بشكل أساسي بموضوع الغاز المتوفر بوفرة على شواطئ سورية، وأنابيبه التي تحتاج الى أراضيها. عنصر قد يعزز فرصة تفاهم دولي ما، ولكنه في الوقت نفسه قد يعزز فرصة استمرار الصراع الذي لا يقوم فيه هؤلاء "المذيعون" الا بقراءة ما يحرر لهم.
(العرب اليوم )