بائع الخضروات
نراهم في حاراتنا وفي أسواقنا ويمرّون من أمام بيوتنا ، أُناس طيبون محترمون ، يُشبهوننا في أسمائنا وسحنتنا ، ويُشاركونا في كل مشاكلنا وهمومنا وآمالنا ، إنهم أصحاب مهنة شريفة كغيرها من المهن التي يمتهنها مواطنون شرفاء ، يُطعمون أبناءهم وأسرهم من حلال جهدهم وعرقهم . يصحون قبل الفجر وينامون قبل الفجر أيضا ، وما بين هذا وذاك ينشغلون بتجهيز بضاعتهم ومصدر رزقهم . وأشدّهم معاناة من لا يملك مكانا ثابتا يعرض فيه بضاعته .
كان من هؤلاء مواطن تونسي حر شريف هو " البوعزيزي " . إلا أن له قصّة مختلفة جدا ، وقد نال شرفا وفضلا ليس لسواه . انه فضل السّبق وشرف الريادة . والرائد لا يكذب أهله . شابٌّ أحب أن يأكل وينفق على أهله من كدّ يده وعرق جبينه . وكأنّ أهل السلطة والفساد استكثروا عليه عربة يبيع عليها . ( فحاصروه ) بفسادهم وطلباتهم التي لا تنتهي . هؤلاء لا يهمّهم إلا جيوبهم وتضخّمها ولو على حساب الفقراء وصغار العمال والمهنيين . فاللقمة يجب أن تكون ملوّثة بالرشوة أو الإذلال . ولكن طاقة الصبر لها حدود . والحرّ لا يستكين للضيم . والضغط يولّد الانفجار . ولكن من تربّى على الفساد واستغلال السلطة ، عادة لا يفهمون المؤشرات ولا يتعلمون من حكمة الحكماء ولا يتّعظون من أحداث التاريخ .
وكانت النار التي أحرقت جسمه النحيل ، الشرارة التي سعّرت نارا كانت خامدة في القلوب والنفوس . وكأنّ الجموع كانت بحاجة لهذه الشرارة لتستجمع شجاعتها وقوتها ، وقوة الآحاد إذا اجتمعت كانت هائلة . وكانت قادرة على إحداث التغيير ، بشرط أن تُحافظ على وحدتها واستمراريتها والتّوحد على أهداف مشتركة ، وأن تبقى سلميّة فهذا سرّ قوتها ، وأن لا تبقى الأغلبية ( محايدة ) .
يخطئ من يظن أن حادثة واحدة عابرة أو فردا واحدا مهما كانت قّدراته أو يوما معينا هو مسبب هذا التّغيّر الهائل في مزاج الجمهور . إن هذا كلّه هو ترس في آلة كانت تدور وتعمل على مدار سنين . إنها نتاج جهود وأحداث متراكمة . مجموع نضالات وعذابات وتضحيات جعلت النار تغلي في المرجل وتشكّل ضغطا متزايدا حتى حان موعد الانفجار . كالقشة التي قصمت ظهر البعير ، أو الكتلة الحرجة التي عندها يكون التفاعل النووي ممكنا ، أو الزاوية الحرجة التي بعدها يحدث تغيّر كلّي على مسار الشعاع .
وككل الأشياء التي تنتقل بالعدوى ، فالنجاح يُغري بالنجاح ، انتقلت روح تونس وبوعزيزها إلى أماكن أُخرى . ولكن أعداء الشعوب الذين أُخذوا على حين غرّة أحيانا تنبّهوا وأخذوا حِذرهم وتمكّنوا من جرّها إلى مربعهم لتصبح دموية يدفع الشعب ثمنا باهظا للحصول على حرّيته . وتجمّع الكيد الخارجي والداخلي لإفشال التجارب التي كُتٍب لها النجاح ، ظنّاً منهم أن العجلة إذا دارت يمكن إيقافها ، هم واهمون فوقوف ( المركبة ) وقوفا تاما يكون فقط عند وصولها إلى المحطّة النهائية وهي حصوله على حريته وكرامته .
رحم الله البوعزيزي وكل شهداء الحرية ، والنّصر للشعوب فهي الباقية والطّغاة عابرون .