الملكية حتى يرثونها
لم يرث الملك عبدالله الثاني من والده الحسين دولة ومؤسسات وجيشا فقط، بل ورث أيضا تقاليد 47 عاما لنمط خاص وفريد من الحكم، كان لها الدور الحاسم في صمود الملكية في بيئة داخلية مضطربة، وإقليمية شديدة العداء.
بعد قرابة عقدين على تسلمه مقاليد الحكم، صار الملك الحسين في نظر شعبه أباً يطاع، ولا ترد له كلمة.
التقاليد التي طبعت علاقة الحسين بشعبه، واجهت مع قرب رحيله عن الدنيا تحديات غير مسبوقة، تستدعي تجديدها وتطويرها للتواؤم مع أجيال شابة تحمل مفاهيم مختلفة، ومع عالم شهد ثورة معلومات هائلة غيّرت وجه البشرية. في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، تسلم الملك عبدالله الثاني الحكم من والده. لم يكن هناك مجال للتردد في تجديد الملكية وأسلوب إدارة الحكم في البلاد.
الأردنيون الذين لفهم القلق بعد رحيل "الأب"، كانوا يتطلعون بحذر شديد إلى المرحلة الجديدة. الملك الجديد ليس أبا في نظرهم، بل ابن للشعب. والمؤكد في مثل هذه الحال أن تكون العلاقة مع الأب مختلفة تماما عن العلاقة مع الابن.
تجديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم هو هدف الإصلاح وجوهره، وهي قبل ذلك عملية ديناميكية لنجاحها شروط أساسية.
عاملان أساسيان مكّنا إسبانيا من تجاوز إرث دكتاتورية الجنرال فرانكو، وولوج عهد الملكية الدستورية الديمقراطية: توفر الإرادة الكافية عند القوى السياسية والاجتماعية حول صيغة توافقية للمرحلة الانتقالية تنهي حكم العسكر وتكرس الطابع المدني للدولة؛ والعامل الثاني هو قوة الجاذبية في النموذج الديمقراطي لدى جيران إسبانيا من الأوروبيين، والآمال المعقودة على الالتحاق بركب أوروبا المتطورة.
في تجربة تركيا لم يكن العامل الداخلي متوفرا للتخلص من حكم العسكر. الدور الحاسم كان للدعم الأوروبي والأميركي للقوى المدنية الطامحة إلى انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمة شروطه إنهاء سيطرة الجيش على الحياة السياسية.
في عهد الملك الحسين ومن بعده الملك عبدالله الثاني، لم تتوفر الشروط اللازمة للقيام بتحولات ديمقراطية وإصلاحية جوهرية. العالم العربي لم يفرز خلال النصف الثاني من القرن الماضي نموذجا ديمقراطيا جذابا ومحفزا على التغيير؛ فالأنظمة التي انبثقت من رحم حركات التحرر الوطني تحولت إلى دكتاتوريات وراثية تحكم شعوبها بالنار والحديد، والملكيات أو المشايخ العربية كانت في الواقع أنظمة ثيوقراطية متخلفة مقارنة بالنظام الأردني.
على المستوى الداخلي، نجحت القوى المحافظة على الدوام في توظيف القضية الفلسطينية وتداعياتها لتحجيم عملية الإصلاح. ولم تتمكن نخب الدولة والمعارضة من التوصل إلى مقاربة سياسية تجنب البلاد خطر الحل الإسرائيلي على حساب الأردن، وتدفع في الوقت ذاته عملية الإصلاح إلى الأمام.
لم تتمكن الدولة من تجاوز هذه العقدة، وظلت عملية الإصلاح تراوح مكانها حتى جاء الربيع العربي ليخلخل أركانها. لكن عندما وقعت الواقعة، لم يكن النظام يملك النخب السياسية القادرة على إنجاز التحولات المطلوبة بالسرعة الكافية. ومع ذلك استطاعت الملكية أن تمتص الضربة الأولى بحزمة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية.
الملكية في الأردن اليوم لا تشبه كثيرا تلك التي كانت في عهد الحسين؛ المجتمع تغير بشكل جذري، وما كان مقبولا بالأمس لم يعد مقبولا اليوم. الملك يقول لمحدثيه باستمرار إنه يريد إصلاحا يتراجع من بعده خطوتين إلى الخلف ليكون "العرش" رمزا للمملكة وضامنا لاستقرارها وديمومتها. أعتقد أننا سنرى ذلك يتحقق في غضون عقد من الزمن. لم يعد هناك مجال للمراوحة، الملك قبل غيره يدرك ذلك. والملكية بحاجة إليه قبل أن تؤول مقاليد الحكم إلى ملك جديد. بمعنى آخر: الملكية الدستورية الحقة أصبحت شرطا موضوعيا لاستمرار نظام الحكم وتوريثه من بعد.
(الغد )