الملقي ينحاز للأطفال أكثر ..
كلهم كانوا أطفالا إلا أنا..»لم أكن كذلك»!، وأشك أن تتغير قناعتي لو أنني أصبحت مسؤولا، لكنني أدرك أن أطفالا كثرا كانوا حولي، عمرهم يبلغ كعمري وربما ينقص أو يزيد قليلا «أو كثيرا»، وفي الزمن الغابر حين كنا في المرحلة الابتدائية في المدرسة، كانت هناك زيارة لسمو ولي العهد لقريتنا آنذاك، الأمير الحسن بن طلال، وضمن اجراءات استقبال ولي العهد، شاركت المدارس بتقديم فرق الكشافة والمرشدات، بأن يكونوا في مقدمة المستقبلين لسموه ويحملون الأعلام وينشدون، حيث كانت فتاتان صغيرتان تحملان حمامتين لونهما أبيض، يقمن بإطلاقهما حال وقوف الضيف أمامهما، ولأن همة منظمي الحفل كانت كبيرة، قاموا بتهيئة طابور الأطفال مبكرا، وكانت الحمامتان هما أكثر من تعب من هذا الوقوف المبكر، إذ تقوم كل طالبة بالقبض على الحمامة من جناحيها حتى يحين موعد الاطلاق، وما أن حل الموعد قذفت الطالبتان بالحمامتين فإذا بهما لا تطيران لأن أجنحتهما مكبلة بسبب طول وقت القبضة عليهما من كل طفلة، وحين قذفتاهما كادت واحدة من الحمامتين تضرب وجه الضيف الذي ضحك كثيرا، فتوقف عند إحدى الطالبتين وكان يتحدث بقهقته المجلجلة المعروفة، وعلى الرغم من قربهما لي فلم أسمع «النكتة» التي أطلقها أو سمعها الأمير حين كان يتحدث للطفلة..*ملاحظة مهمة (لم أكن بالكشافة ولا ضمن طابور الأطفال بل كنت «أتزروق بين الحشد»).
وصباح الأربعاء الماضي حدث موقف مشابه، لكن بطله رئيس الوزراء الدكتور هاني الملقي، الذي رعى إطلاق مهرجان الزيتون 18 ومعرض المنتجات الريفية الذي أقيم لمدة 3 أيام في حدائق الحسين، وما جرى من قبل رئيس الوزراء موقف يستحق الشكر عليه، وقد «قهقه» الرئيس حين شكرته عليه، ويتلخص الموقف بأن الدكتور الملقي وحال وصوله الى موقع المهرجان الذي أطلقته وزارة الزراعة بتنظيم واشراف من قبل المركز الوطني للبحث والارشاد الزراعي، توجه الملقي فور نزوله من سيارة الرئاسة الى الموقع الذي اصطف فيه أطفال إحدى المدارس الأساسية، وكان لافتا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أن يقوم الرئيس بالتوجه مسرعا للأطفال وكأنه هو من يستقبلهم، وسلم على عدد منهم، ثم عاد الى مستقبليه الذين يتقدمهم وزير الزراعة، وكنت أقف هناك وحين صافحت الرئيس قلت له : أشكرك على هذه الحركة مع الأطفال، فقهقه، ثم عاد الى تكرار الموقف ثانية، مع أطفال كانوا يقفون بعد طابور المستقبلين داخل «صيوان المهرجان»، وسمعته يقول لهم حين بادروه بحركاتهم الطفوليه للسلام عليه : بدي أتصور معكو اذا سمحتوا.. وقد وقف الرئيس مع الأطفال وصورهم الجميع ..وكنت أرصد انفعالات الأطفال في هذه اللوحة، التي يمكنني أن أستخلص منها عدة معان انسانية وسياسية وتربوية اجتماعية..أتمنى أن تتحقق، فالاهتمام بالأطفال ومشاعرهم في مثل هذه المواقف ينمي لديهم الحس الوطني والشعور بأهميتهم، وهي مواقف سينساها حتى الرئيس نفسه، بينما لن ينساها طفل عمره 6 أو 10 سنوات صافح رئيس الوزراء والتقط الرئيس صورة معه، وأنا أجزم أن موقف سمو الأمير الحسن بن طلال قبل أكثر من 40 عاما مع تلك الطفلة قد أضاف شيئا مهما لمسيرة حياتها، والشيء نفسه يحدث مع أي طفل يجد اهتماما من مسؤول كبير في موقف سيعتبره الطفل من أهم المواقف المؤثرة في حياته وقناعاته..(**ملاحظة لم أكن رسميا من ضمن طابور المستقبلين، لكنني كنت أتجول لتسجيل حلقة من برنامج الاعلام والشأن العام حول المهرجان، تسمعونها اليوم عبر أثير اذاعة المملكة الأردنية الهاشمية في الثامنة والربع مساء).
المهرجان مهم، وتحدثت عنه وسائل الاعلام وما زالت وكانت جهود تنظيمه مميزة وناجحة والشكر هنا للدكتور نزار حداد وفريقه في المركز الوطني للبحث والارشاد الزراعي، لكنني أعتبر الموقف و»الحركة» التي قام بها الرئيس مباركة أيضا، حين أراها واتفهمها من منظور الأطفال الذين تواجدوا مع الرئيس وصافحهم وطلب منهم أن يلتقط صورة بمعيتهم.
دعونا من السياسة الجدلية، وعودوا لكلام رئيس الوزراء قبل أسابيع في لقائه مع حشد كبير من المواطنين، إذ قال «نريد أن نسلم الوطن لأبنائنا أفضل مما استلمناه من آبائنا».. وقد تتقافز الكثير من المعاني والتساؤلات الساخرة حول هذه العبارة لدى الأردني الذي يتلقاها هذه الأيام، سيما وأنها تصدر عن رئيس وزراء، لكنني أفهمها فهما اعتبره غاية في الأهمية رغم بساطته، وباعث على راحة الضمير لدى المسؤول الذي يقولها ويعمل بها، وهي بمثابة استفتاء للقلب والضمير، فيكفي رئيس الوزراء أن يكون مرتاح الضمير حين ينهي مهمته، ولعل تعهده بتسليم الوطن بشكل أفضل لمن يأتي بعده ليكمل المشوار، تعهد كاف لو حقق منه شيئا نسبيا، ولا أبالغ حين أقول بأنه يفعل، فالصواب هو الضالة بالنسبة للمسؤول، ومبدأ لا يصح الا الصحيح قد يكون قاسيا على مريضي القلب وجارحا، لكنه مبدأ أخلاقي منطقي مستقر متوازن طبيعين وهو مطلوب من أي مسؤول، يعتبر هدف تحقيقه رئيسيا، مهما اختلفت النظريات والأجندات وتعاظمت الأزمات.
أريد أن أقول إن الدكتور الملقي ينحاز لمستقبل هذا الوطن أكثر من انحيازه لماضيه وجدلياته التي لا تنتهي، وحين يغادر الدوار الرابع سيكون مرتاح الضمير كأي والد قدم ما يمكنه تقديمه لأبنائه ..
السؤال الشخصي الذي يدور في ذهني أحيانا هو «كيف أستعيد طفولتي البائسة المسروقة؟!»..فيجيبني صوت من أعماقي:حسنا؛ أبحث عنها وتأكد من وجودها لدى أطفالك، وهذا يكفيني، وكذلك يفعل الآباء الذين يتمتعون بضمير صاح.