لا تتركوا المواطن نهبًا للسوق المسعورة ..
دوما؛ ثمة مستفيد من القرارات الاقتصادية القاسية، وللدقة نقول هم دوما تجار، وحين تلجأ الدول الى قرارات اقتصادية تقشفية، أو تقوم بإصلاحات ضريبية أو تتخذ أية خطوة بشأن السلع المتداولة في الأسواق، فإن مستفيدين في السياق ولا علاقة لهم لا بالمواطن ولا بالدولة سوى ما تعلق بفهمهم التجاري للدنيا ونظرتهم بأن المواطن مجرد مستهلك والدولة سوقهم المحمية وملعبهم، فالقصة بالنسبة لهم تكمن في الأرقام وحجم ما يوجد في مستودعاتهم من سلع، وكم سيصبح ثمنها بعد القرار الحكومي، وبعضهم كان مستعدا، فزادت ارصدته بعشرات الملايين بعد القرار الحكومي مباشرة.
القرارات التي اتخذتها الحكومة بشأن رفع الرسوم الجمركية وتغيير شكل الدعم المقدم للمواطن المستحق له عن مادة الخبز، قرارات غير شعبية بالتأكيد، وهي قاسية على الناس وعلى الحكومة والدولة، لكنها شفافة واضحة وليست مفاجئة بالنسبة لأي منا، وقد مضت سنوات ونحن نعاني من ظروف اقتصادية تتفاقم بالسوء، والحوار العام كله منصب على الأسعار والموازنة وسد عجزها، وكل المعادلة السياسية والشعبية تقريبا تدور حول الشأن الاقتصادي فلا جديد مفاجىء بالنسبة لنا حول القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء أمس الأول الاثنين، إنما الجديد هو حالة النسيان المزعومة والمفاجأة المصطنعة التي يبديها بعضهم، وكأننا لا نعلم شيئا عن هذه التوجهات الحكومية، في الواقع سنقولها لكم بعبارة صحفية «القرارات ليست خبرا بل الخبر هو المفاجأة المصطنعة».
في كل القرارات الشبيهة التي تتخذها الدول ولا تجد غيرها للخروج من مآزق الموازنات، وتهيئة الظروف البسيطة لمؤسسات الدولة كي تستمر في أداء مهامها الكبيرة، يكون الأمر الأهم متعلقا بالسوق وضبطها، وتشديد الرقابات جميعها على أدائها من حيث أسعار وجودة ما تقدم من سلع أو خدمات للمستهلك، وهذا الخبر بالنسبة للمواطن المستهلك، فقصته الحقيقية ليست مع الحكومة ولا مع القرار القاسي، ولو كان أي مواطن في موقع المسؤولية لقام باتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة، لتستمر عجلة الدولة والحياة بالدوران؛ لأن الموقف البديهي الذي يتخذه أي إنسان حين يقل دخله المالي، يكون باللجوء الى مزيد من التقشف والترشيد والصبر، وهذا ليس فتحا مبينا في التفكير والسلوك والثقافات البشرية، بل هو طبيعة في البشر وتمييز وتحكيم للعقل..فكلنا نقتصد في الانفاق حين لا نملك ما يكفي من المال، وهذا ما تفعله الدول.
سواء أكانت القصة تحدث في الأردن أو في أي مكان في الدنيا، فإن التفاصيل المرعبة ستكون في الحالة المسعورة المتوقعة من تصرفات السوق، وقد طالعتنا «مثلا» بعض وسائل الاعلام بتوجهات بعض المخابز وربما جميعها، حول الأخبار المبدئية التي صدرت قبل أسبوعين تقريبا والمتعلقة بأسعار الخبز، وقد استمعت لحديث صدر عن نقيب أصحاب المخابز، يطالبون فيه بهامش ربحي أكبر عن بيعهم للخبز الذي تم تحديد سعره، فهم يقولون بأن هناك كلف انتاج أخرى يجب إضافتها على سعر الخبز لتستفيد المخابز، ويسوقون التبريرات بأنهم يقومون بعمل ينفذه عمال يأخذون رواتب، ويستخدمون آلات ومدخلات انتاج ..الخ الحديث الاكتشاف!.. والذي يسمع الكلام يعتقد بأنه لم يكن في الأردن مخابز قبل هذا القرار الحكومي بشأن تسعيرة الخبز، وأنهم – أصحاب ونقابة أصحاب المخابز- افتتحوا للتو مخابزهم وقاموا باستخدام عمال وآلات !..بينما لم يتحدثوا بمثل هذه القصص حين كانوا يسيطرون على الطحين المدعوم ويتفننون في صناعته وانتاج مشتقاته ويبيعونها بأسعار خيالية، فهم ربما لم يكن لديهم عمال آنذاك ولا آلات، أو كانت مهمتهم محصورة بعملهم كموزعين للطحين المدعوم !!
على الوتيرة نفسها وبالمبررات ذاتها، سيقوم كل تاجر تقريبا بتبرير رفعه لكل أنواع السلع والخدمات التي يقدمها، حتى لو لم يشملها أي تغيير او رفع على رسومها وضرائبها في القرار الحكومي المذكور، وسوف يسارعون للحديث عن الضرائب والرسوم والأسعار التي ارتفعت، وحين يصدف أن يقدم أحدهم سلعة أو خدمة غير مشمولة بالقرار الحكومي، سيعود مواطنا ويقول أنا أدفع إيجارات ولدي أبناء يدرسون في «السوربون» ..و»بدي أعيش يا عمي»!.
الحكومات بقراراتها المذعورة خشية فشل الدول، تحتاج لشعوب صبورة قدورة غيورة، والأسواق بمزايداتها ومناقصاتها المسعورة، لكسب مزيد من أرصدة، تحتاج لمستهلكين يؤمنون بالحكمة واستهلاك الضرورة.. فكلنا في الهمّ شعب بذل وما زال ليسلم وطنه عزيزا كريما، حتى وإن تفرقت الأحلاف أو انكفأت الاقتصادات.
لا تقنطوا من رحمة الله اولا، ولا من دفء الوطن وسعته لأهله، وقالوا لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن صدور الرجال تضيق، قول ينطبق علينا أيضا، لكن لن تضيق صدورنا إن كان الرهان على بلدنا وكم سيصمد في وجه مخططاتهم وحروبهم ضده.