فلسطين كقضية اردنية
يصر بعض أدعياء الوطنية الاردنية بين الحين والآخر، وحين يتذكرون العداء لـ»اسرائيل»، على أن يبرروا هذا من منطلقات اردنية بحتة؛ أي الخوف على الاردن والهوية الاردنية، دون اي اعتبار أن فلسطين كانت وما تزال جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام والوطن العربي الكبير، وأن احتلالها لا يختلف عن احتلال أي أرض اردنية. هذا التذكير الفج الذي يقوم به بعض هؤلاء بين الفينة والاخرى، والاصرار عليه، له مغزى واحد وهو فصل قضية فلسطين عن عمقها العربي والاسلامي، وهو بالضبط ما تريده «اسرائيل» التي رفضت على الدوام اعتبار فلسطين قضية عربية، وكانت تقترح كحل للقضية فتح مفاوضات مع اهالي فلسطين في الداخل، وترفض حتى الاعتراف بحق من تم تهجيرهم.
في مؤتمر مدريد للسلام رفض الصهاينة فكرة الوفد العربي المشترك؛ على أساس أن قضية كل دولة عربية مع «اسرائيل» لا علاقة لها بالأخرى! ولعلمها أن ربط الموقف العربي معاً سيشكل وسيلة ضغط عليها لتقديم تنازلات اكبر.
ما كنا نعيبه سابقاً على بعض المنظمات الفلسطينية، وتحديداً حركة فتح، أنها ببعض سياساتها الخاطئة تكرس فكرة «فلسطنة القضية»، وتنزعها من بعدها العربي الاسلامي، والآن يخرج علينا بعض أدعياء الوطنية الاردنية بفكرة مشابهة، ففلسطين بالنسبة لهم لا ينظر لها إلا من باب المصلحة الاردنية القطرية الضيقة! فتهجير الفلسطينيين لا يهمهم، اللهم إلا إذا كان إلى الاردن؛ أي إن تهجيرهم الى مكان آخر قد يكون مقبولاً بالنسبة لهؤلاء، رغم ما يترتب عليه من تفريغ لفلسطين، وتدمير لهويتها العربية وهو الاخطر.
يلجأ صاحب أي فكرة وحدية -سواء كانت وطنية أو قومية او دينية- الى التاريخ لاستحضار وقائع وأدلة تثبت نظريته، كذا يفعل دعاة الوحدة الاسلامية، وكذا رواد القومية العربية، واليهود حاولوا وما زالوا يختلقون تاريخاً قديماً لهم في فلسطين، وجهدوا لإثبات وحدتهم كشعب تاريخي، وقد تم تفنيد هذا الادعاء في دراسات علمية كثيرة، منها على سبيل المثال: كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة» لكيث وايتلام الصادر في إحدى الطبعات عن سلسلة عالم المعرفة، رغم أن فكرة الاعتماد على علوم التاريخ لإثبات وجود أمة ما فكرة ملتبسة؛ ففكرة الامة تفهم في سياقات أخرى لا مجال لذكرها الآن.
اصحاب فكرة الوطنية الاردنية (أقصد من يقدمها بالمفهوم الضيق) يحاولون كثيراً اثبات اساس وجود كيان اردني وهوية اردنية مستقلة بحسب الحدود الحالية ومعزولة عن محيطها العربي، ولهم في ذلك مرجعيتان:
1- التاريخ القديم؛ كالحديث عن الممالك المؤابية ومملكة الانباط وغيرهم، وهذا امر جميل يثبت ان هذه الارض كانت مأهولة وعامرة، وتعاقبت على أرضها حضارات تاريخية، لكن من التسطيح والسذاجة أن يتم اعتبار تلك الحضارات أساس فكرة الوطنية الاردنية، وحسب ما قلنا بالمفهوم الضيق الذي يتم طرحه، فيصبح الملك المؤابي ميشع جد الاردنيين وأباهم الروحي!
2-التاريخ الحديث، والاستناد الى المؤتمرات الوطنية التي اقيمت في بدايات القرن الفائت؛ فمقررات تلك المؤتمرات تدل حقيقة على وجود وعي للآباء بحجم المؤامرات التي كانت تحاك، لكن هناك من يحاول اجتزاء الحقائق لتتماشى مع هواه، وكمثال على ذلك انه في أحد هذه المؤتمرات ورد بند يطالب فيه المجتمعون بفصل حكومة الاردن عن حكومة فلسطين، والسبب في هذا المطلب كان واضحا؛ وهو الخوف من تهويد الاردن، حيث كانت هناك محاولات حثيثة لزعماء الحركة الصهيونية لشمول شرق الاردن بوعد بلفور، فخشي المجتمعون في ذلك المؤتمر من السماح لليهود بإقامة مستوطنات صهيونية في الاردن، وخاصة بعد أن تبين وجود محاولات لشراء الاراضي، وهو ما أصر المؤتمرون على ضرورة منعه. مروجو هذه الفكرة يغضون النظر ايضا عن أن كل المؤتمرات التي عقدت في تلك الفترة، كانت تعتبر الاردن جزءاً من سوريا العربية، ومنها المؤتمر المشار اليه، ولذلك نجد دائما بنوداً ترفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتحذر من أنها ستقاتل ضد اقامة دولة صهيونية؛ كون فلسطين -ايضاً- جزءاً من سوريا العربية الكبرى. وفي رسالة أخرى ارسلها شيوخ القبائل في جنوب الاردن عام 1920 الى من يسمى «المدير العام لبلاد العدو المحتلة الجنوبية»، أعلنوا فيها رفضهم القاطع للمنشور الذي اعلنته بريطانيا عام 1920 في القدس عن سعيها لاقامة دولة يهودية في فلسطين، وذكر شيوخ العشائر في رسالتهم أنهم يرفضون -وحسب تعبيرهم- «فصل فلسطين عن سوريا المتحدة»، وأنهم «سيسارعون إلى مساعدة إخوانهم الفلسطينيين عند مسيس الحاجة».
في مؤتمر شهير عقد في دمشق سمي «المؤتمر السوري العام» سنة 1920، وهو الذي أعلن فيه المؤتمرون استقلال سوريا بمناطقها كاملة (الداخلية والساحلية والجنوبية) أي بما يشمل فلسطين والاردن، وطالبوا ايضاً باستقلال العراق وضمه لهذا الاتحاد، وقد شهد المؤتمر مشاركة شخصيات وطنية من المدن الاردنية (كإربد والسلط وعجلون)، ولم نسمع آنذاك عمن رفع صوته بأن الاردن ليس جزءاً من هذه الدولة، بل اقيمت الاحتفالات الشعبية، لكن الحلفاء رفضوا مقررات هذا المؤتمر، وأكملوا مشروع التقسيم بالقوة؛ حيث أعلنت إمارة شرق الاردن بعدها بسنة، وبقيت فلسطين تحت الانتداب إلى حين اقامة الدولة الصهيونية، وأكمل الفرنسيون احتلال سوريا، وحاولوا تقسيمها الى دول طائفية بعد فصل لبنان عنها.
الوطنية بمفهومها العام فكرة جيدة، وبعيداً عن التعريفات المهنجية لها، نحن نفهمها بالاخلاص للوطن والعمل على رفعته، وتحسين وضع الشعب، وعدم التمييز بين ابنائه، لكن ان تتحول الوطنية الى حالة شوفينية عنصرية تكره الآخر وتعاديه، سواء كان من نفس ابناء البلد او غيرهم من ابناء العروبة، فهي فكرة مرفوضة قطعا، وقد عمل الاستعمار على دعم هذه الفكرة في بعض البلدان العربية؛ ففي مصر نشطت في إحدى الفترات فكرة أن مصر فرعونية لا علاقة لها بالعروبة، وكذا في لبنان كان بعض الكتائبيين يرفضون عروبة لبنان، وإلى الآن هناك حزب صغير معزول اسمه «حراس الارز» يرى في الشعب اللبناني أمة قائمة بذاتها، لا علاقة لها بالعرب، بل يعتبر «اسرائيل» اقرب لهم! وقد حاول بعض السوريين تطبيق نفس الشيء، لكن هذه الدعوات فشلت فشلا ذرعيا، ولم تلاق أي إقبال رغم الدعم الغربي لها.
نقول لهؤلاء الاحبة نحن نعتز بالاردن ونحبه، لكننا لا ننظر الى القضية الفلسطينية من منطلق «وطنية اردنية معزولة عن محيطها العربي»، بل نرى أن النظرة البعيدة الأمد توجب علينا الصراع من اجل تحرير فلسطين كجزء من بلاد الشام والوطن العربي الكبير، الذي اريد لـ»إسرائيل» ان تمنع وحدته بموقعها الفاصل بين مشرقه ومغربه، ونؤكد لهؤلاء أنه اذا كانت محاولاتهم هذه بخلق تاريخ خاص بالاردن ككيان بحدوده الحالية، هدفها الرد على القوى التي تريد تصفية القضية الفلسطينية في الاردن، والتخلي نهائيا عن فلسطين، فهم يخدمون هذا المسعى من حيث لا يدرون؛ فالاصل التأكيد أن الاردن الحبيب ما هو إلا جزء من بلاد الشام والوطن العربي، تاريخه من تاريخ هذا الوطن الكبير الذي لا وجود فيه بتاتاً لدولة «اسرائيل» الا في سياق مصطنع، هدفه خدمة اهداف الغرب الامبريالية بتفرقتنا واستعبادنا، واستمرار خلق التخلف في بلادنا.