استعمار جديد
في التسريبات التي أكدها عدد من النواب، تبدو الاتفاقية التي وقعها الاردن مع صندوق النقد الدولي، والمعروف بأنه احدى ادوات السيطرة على الدول والشعوب أقرب الى استعمار جديد منها الى اتفاقية اقراض عادية، فالاتفاقية تنص على تحرير كامل لاسعار الكهرباء ورفع الدعم عن الخبز والاعلاف وفرض ضرائب معينة، بل تتدخل في خصوصيات أردنية تمس ليس فقط قوت المواطن المظلوم، بل تتجاوز سيادة الدولة بشكل خطير كشرط تخفيض أعداد الموظفين الحكوميين، وتخفيض عدد افراد القوات المسلحة! وربما كان الاعلان الملفت للنظر قبل فترة بوقف التجنيد في القوات المسلحة ضمن هذا الامر، حيث لم نعتد ان يعلن الجيش رسمياً عن وقف التجنيد، كل هذا الأمر أتى من أجل قرض قيمته التقريبية مليارا دولار لن يستخدم لاغراض انتاجية، بل لتصحيح الموازنة، ولسد جزء من العجز! ونحن نعلم انه لو توفرت الارادة السياسية الجادة، فيمكن توفير هذا المبلغ دون هذه الشروط المذلة التي هي استعمار اقتصادي، والاستعمار الاقتصادي أخطر من العسكري؛ لأنه يجبر النظام لاحقاً على الاستجابة لإملاءات سياسية خطيرة، ويقدم مبررات امام الشعب بأن رفضه يعني الموت جوعا! رغم ان قضية دعم الكهرباء لها حلول كثيرة وربما أهمها استعادة الحكومة لملكية شركتي توليد وتوزيع الكهرباء اللتين تنهبان الميزانية الاردنية بشكل كبير، وهناك خيار مؤقت أسهل من ذلك وهو ان يفرض مجلس النواب ضرائب مرتفعة على ارباح الشركتين، يتم به تعويض ما تدفعه الحكومة لهما كسعر للكهرباء؛ لأن الحديث عن دعم للصناعة الوطنية في ظل رفع اسعار المحروقات والكهرباء كذبة كبرى، بل هو تحطيم كامل للصناعة الوطنية التي تشهد تنافسا حادا من دول الجوار، ورفع لأسعار كافة السلع والخدمات الاخرى.
الدين المتصاعد على الاردن الذي تجاوز 25 مليار دولار ليس له أي مبرر سوى الفساد وسوء ادارة الدولة في السنوات الاخيرة، ومن الواضح ان اسقاطنا في هذا الفخ كان مبرمجاً لإجبارنا على تقديم تنازلات سياسية معينة، وسرقة ثرواتنا الباطنية من قبل الشركات الغربية، وهي الثروات التي يمتنع النظام عن استخراجها لغاية الان لأسباب غير مفهومة.
يتحدث كاتب أمريكي عن تجربته بالعمل مع شركة امريكية استشارية على علاقة بالسي اي ايه، ويوضح كيف تسعى الولايات المتحدة لفرض سيطرتها الاقتصادية على الدول والشعوب، وذلك عبر اغراقها بالديون لاستعمارها اقتصاديا وسياسيا وسرقة ثرواتها، او اجبارها على الخضوع لمتطلبات السياسة الامريكية العالمية، والكاتب نفسه يتحدث عن ادوار قام بها لإقناع كثير من الدول بمشاريع لا تتناسب مع طبيعة تلك الدول ثم تضخيم تكلفتها وتقديم دراسات كاذبة عن جدواها، مقابل اغراق تلك الدول بالديون (يبرر المؤلف اعترافاته الخطيرة بصحوة ضمير متأخرة؛ نتيجة ما رأى من انتشار للفقر في كثير من الدول نتيجة تلك السياسات) وهذه التجربة لخصها بكتاب اسمه «اعترافات قاتل اقتصادي».
من يقرأ الكتاب يرى وجه شبه كبير بين ما تحدث عنه المؤلف من اسلوب استخدم مع كثير من الدول، وكان هو عراب بعض تلك المؤامرات، وبين ما حدث في الاردن في القرن الواحد والعشرين، ورغم ان الكاتب لا يتحدث عن الاردن، لكن واضح ان نفس الاسلوب استخدم هنا حيث إن هناك شخصية اقتصادية شهيرة قادت اقتصاد الاردن في العقد الاول من القرن الحالي، لعبت نفس الدور الذي لعبه «جون بيركنز» مؤلف الكتاب المذكور، وهو الدور الذي اسماه «القاتل الاقتصادي»، فقد ادت هذه السياسات المتبعة في الاردن الى تدمير الاقتصاد واغراقنا بالدين الخارجي لصالح المؤسسات الاستعمارية؛ وذلك لإجبارنا على الانبطاح الكامل امام الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، والنتيجة المستخلصة ان تلك السياسات التي اسقطتنا في الاستعمار مرة اخرى وبشكل اكثر وضوحاً، لم تحدث أبداً بحسن نية بل بسوء وتدبير مسبق، وعبر إبعاد كل وطني وشريف عن مراكز صنع القرار، وتقريب المرتزقة الباحثين عن المصالح الشخصية، وهذه هي النتيجة: عدم القدرة على رفض أي متطلبات للسياسة الامريكية من تسليم الشركات الغربية الثروات المستخرجة، وتلك التي سيتم استخراجها عبر اتفاقيات اقرب منها الى النهب، وليس عبر اتفاقيات منصفة وعادلة تعود على الشعب الاردني بالخير، بالاضافة الى الشروط السياسية المتعارضة مع مبادئنا ومصالحنا التي ستكون متعلقة اكثرها بالقضية الفلسطينية، والتي بدأت تتوضح أدوار البعض المحلية فيها، من تعيين وزراء بعينهم لهم علاقات مشبوهة مع «اسرائيل» وزيارات غامضة، او لهم ارتباطات بمراكز دراسات امريكية متصهينة، بالاضافة الى ما تبين مؤخرا من علاقات لأحد النواب بالعدو الصهيوني، وخاصة ان النائب كان يثير على الدوام قضايا يحاول منها ضرب الوحدة الوطنية، ويتغاضى عن «اسرائيل» وجرائمها وخطرها الدائم علينا، ونخشى ان نتفاجأ أن مثل هذا النائب كثيرون! وهذا الامر يؤكد ان الانتخابات الاخيرة مبرمجة بشكل معين؛ لضمان عدم تعطيل المشروع الجديد! وطبعا الاردن اصبح بوضع تجده يعمل فيه على مساعدة الولايات المتحدة في محاولة سرقة الثورات العربية، وحرفها عن هدفها، ومنه ما تبين مؤخرا من وجود لقوات امريكية في الاردن للتدخل في سوريا؛ لمحاولة صياغة شكل جديد للنظام فيها، ليس هو بالتأكيد الذي قامت الثورة من أجله.
نعلم أن كل ما يخطط له ليس قدرا إلهياً، ولكن يجب ان نثق بأنفسنا وبوعينا، وعلى كل القوى الوطنية ان تجتمع لمحاربة هذا المخطط الخطير، ولوضع تصور يمكن فيه إجبار النظام على التخلي عن تبعيته العمياء للقوى الاستعمارية الخارجية، وأن يدرك أن مصيره بيد شعبه لا بيد تلك الدول المتآمرة، ومن هنا يبدأ الاصلاح الحقيقي، ويبدأ التخلص من هذا الاستعمار الجديد.