عمّي منصورٌ نجّار
في الصفِّ الأوّلِ ؛ حينَ لبسنا القهرَ على مهلٍ، وقفَ الأستاذُ وقالْ : يا أولادي بعد قليلٍ تتوالى الأجيالْ..بعد قليلٍ تكبرُ فيكم أحلامٌ؛ ويصيرُ الذئبُ غزالْ..! يا أولادي (( عمّي منصورٌ نجّارْ..يضحكُ في يده المنشارْ)) ..منصورٌ هذا عربيٌّ قحٌّ ..مسكينٌ لا يغلقُ بابْ..يحفظُ شعر المتنبّي ويجيدُ الدبكةَ في الأعراسِ ويأكلُ بصلاً من غير كبابْ..ويصلّي للهِ الخمسَ جميعاً؛ بل ويُصلي خمسينَ بلا أسبابْ..!
منصورٌ نجّارْ..يملكُ منشارْ..نضحكُ حين يلاعبنا بالخشبِ المتهالكِ في الدارْ..أطفالاً كنّاً؛ وكبرنا..والمنصورُ له أولادْ..والأولادُ لهم أولادْ..والمنشارُ على الحائطِ كالسيف يزيّنُ صدرَ البيتِ كما تتزيّنُ عذراءٌ بالزنّارْ..!
في حارتنا ولدٌ يكبرنا بقليل ؛ أطول منّا أشبارْ..يعرفُ عن قربٍ منصور النجّارْ..أولاد النجارْ..أحفاد النجارْ..ويسامرهم..يتسلّى معهم..ويشاطرهم كلّ الأسرارْ..كانَ يمجّدُ تاريخَ المنشارْ..ويبوّسه إنْ دخل الدارْ..!
بعد سني القحط..وبعد الحربِ وبعد الموتْ..نامَ الأخضرُ؛ وصحا اليابسُ ..بل وتمدّد فينا الصمتُ وتقلّصَ فينا الصوتْ..والولدُ الحاملُ للأسرارْ؛ صارَ الولدَ الضالْ..من غير سؤالْ..!! صار يفتِّش عن مأوىً وهدىً من بعد ضلالْ.. صار يُكركِرُ سُخريةً من أحفاد النجارْ..ومن المنشارْ؛ إلْـ كان يبوّسه وهو يزيّنُ صدر الدارْ..!
في قيلولةِ عصرٍ؛ في نشرات الأخبارْ..غابَ الولدُ الضالْ..! غاب بلا أسرارْ..غاب بلا أحمالْ..قام العالمُ لم يقعدْ؛ والتفّ على الناس سؤالْ؛ يتكرّرُ من غير مآلْ : أين الولدُ الضالْ ؛ بل أينَ الولدُ الضالْ..؟!.
في اليوم الثاني؛ والعالمُ منشغلٌ ؛ فُقِدَ المنشارْ..ما عاد يُزيّنُ صدرَ الدارْ..انقسمَ الأعرابُ إلى قسمينْ ؛ قسمين بلا سَلَفٍ أو دَينْ..قسمٌ يبحثُ عن ولدٍ ضالْ..قسمٌ يبحثُ عن منشارْ..وانتشرتْ أخبارْ..وتداخلتِ الأخبارْ..! هل جاء المنشارُ إلى الولد الضالْ..أم ذهبَ الولدُ إلى المنشارْ..؟؟!
وهناكَ ؛ على أنغامِ العتمةِ..يجلسُ أستاذٌ يبكي ..بل يضحكُ بل يبكي..ويقولُ بصوتٍ مبلولٍ :عمّي منصورٌ نجارْ..يضحكُ في يده المنشارْ..! لم يعلمْ أحدٌ أنّ الابن الضالَ..هو الابنُ الأوحدُ للأستاذِ الباكي والضاحكِ وهْو بساعة وجدٍ من علّمنا كيف نبوسُ المنشار بلا إجبارْ..!