jo24_banner
jo24_banner

سؤال الهوية وثنائياته في العالم العربي

أ.د.أحمد يوسف التل
جو 24 : ضمن الأحداث التاريخية الكبرى في العالم العربي، ظل السؤال التالي يتردد: من نكون؟ وماذا نريد أن نكون؟ وبعبارة أخرى: ما هويتنا، سواء سلكنا هذا السبيل أو ذلك في التنمية؟
كان هذا السؤال، سؤال الهوية، ولا يزال، سؤالاً يطرح جملة أزواج أو ثنائيات، على رأسها الأزواج التالية: الإسلام/ العروبة، الدين/ الدولة، الأصالة/ المعاصرة، الوحدة/ التجزئة. سؤال الهوية في الفكر العربي الحديث والمعاصر يطرح الفصل في هذه الأزواج: من نحن، ماذا نريد أن نكون؟ سؤال يطرح مباشرة قضية العروبة والإسلام، قضية الدين والدولة، قضية الوحدة والتجزئة، قضية السلفية والحداثة... الخ. وإشكالية المثقف العربي، إشكاليته النهضوية تحكمها بل تنسجها هذه الأزواج، وبالتالي فالبحث في هذه الإشكالية في إطار رؤية مستقبلية معناه "نقد" هذه الأزواج، أعني تحليلها وفحصها وبيان ما هو مزيف وما هو غير مزيف.
لنتجنب تعميم المشاكل المحلية.
بالنسبة إلى الزوج الأول: الإسلام/العروبة، يرى الدكتور محمد عايد الجابري أن المغاربة لم يشعروا يوماً، بأن هناك فرقاً بين الاثنين، أو بأن هذا الزوج يطرح مشكلاً، من نوع المشكل الذي يطرح في صيغة الاختيار بين أحد الطرفين: العروبة والإسلام، أو من نوع المشكل الذي يطرح مسألة أيهما يجب أن يكون أولاً وأيهما يجب أن يكون ثانياً. وأستطيع أن أؤكد أننا عندما نقرأ كتابات مشرقية حول "مشكل" الاختيار أو المفاضلة بين العروبة والإسلام، فإننا نجد أنفسنا أمام كتابات لا تنفذ، بما تريد أن تقوله، إلى وجداننا وإلى عقولنا. بل يمكن أن أقول إننا هنا نشعر بأن المسألة غير ذات موضوع، أعني أن الأمر يتعلق بمشكل غير مطروح، وبالتالي بإشكالية مزيفة".
لعلكم تتساءلون لماذا يستجيب المغاربة – وأقصد أبناء المغرب العربي – هذا النوع من الاستجابة، الباردة السلبية، لقضية تعتبر في المشرق قضية أساسية، إلى درجة أن كثيراً من الكتاب هناك يجعل مصير النهضة العربية ومستقبلها مرهوناً بحل هذه "المشكلة"، مشكلة ترتيب العلاقة بين "العروبة" و"الإسلام"؟
ويرى الدكتور الجابري أن الجواب عن هذا السؤال يجب البحث عنه في أصل "المشكل"، وهو يقع في المشرق وليس في المغرب. إن هذا يعني أن "المشكل" هو أساساً مشكل محلي وليس مشكلاً عربياً، بالمعنى الذي يتحدد به الوطن العربي جغرافياً: من المحيط إلى الخليج. إن التعارض أو التقابل، أو الشعور بضرورة التوفيق والجمع، بين مفهوم العروبة ومفهوم الإسلام، كما تعرفون في الشام أساساً، وبصورة أعم في سورية الكبرى، وعرفت له بعض الأصداء في مصر، وذلك في القرن الماضي، عندما اكتسى رد فعل سكان هذه المنطقة، منطقة سورية الكبرى، ضد الحكم العثماني وسياسة التتريك، صورة قومية، فنادى القوميون السوريون بـ"العروبة" كبديل عن "التتريك"، وطالبوا بالاستقلال للقوميات العربية، عن الإمبراطورية العثمانية. وقد تركزت المطالب الوطنية آنئذً على الحفاظ على الكيان العربي، لغة وتراثاً، وحفظه من الذوبان أو الانحلال نتيجة سياسة التتريك، سياسة جعل القومية التركية الطورانية هي القومية السائدة الجامعة في الإمبراطورية العثمانية.
وكما نعرف جميعاً فلقد اكتسى رد الفعل في سورية ولبنان خاصة طابعاً خاصاً، إذ اقترن الدفاع عن العروبة، عند بعض الجمعيات، بالمطالبة بـ"العلمانية" أي بفصل الدين عن الدولة، الأمر الذي كان يعني الاستقلال عن الخلافة التركية "الإسلامية" وإقامة حكم عربي مستقل عن تلك الخلافة. وكرد فعل مضاد على هذه المطالب العروبية رفع من جانب الأتراك والمؤيدين لهم شعار الجامعة الإسلامية، فانزلق النقاش، بل الصراع إلى وضع خاطئ للمسألة، وضع يختزلها، نظرياً، في طرح الاختيار بين العروبة والإسلام، أو على الأقل طرح مسألة الأولوية فيهما. وقد تغذى المشكل من واقع بلاد الشام المتميز بوجود أقليات دينية غير إسلامية، مسيحية بصفة خاصة.
المشكل إذاً هو في أصله مشكل محلي. لا يهم إلا جزءاً من الوطن العربي، هو سورية والأردن ولبنان بصورة خاصة، ومصر وفلسطين بصورة أقل. أما العراق والجزيرة واليمن والمغرب العربي بجميع أقطاره فلم تكن تعيش هذا المشكل إطلاقاً. وما نريد التأكيد عليه هنا، ليس هو اختلاف التركيب الاجتماعي والديني في الوطن العربي، فهذا واقع نجده في كثير من البلدان المتحدة أو حتى الواحدة، بل ما نريد إبرازه هو أن الريادة الفكرية النهضوية العربية التي كانت لكتاب ومفكري مصر والشام قد نقلت هذا المشكل المحلي إلى مشكل عام على صعيد الفكر النظري، بمعنى أن الكاتب السوري مثلاً عندما يعالج مسألة العروبة والإسلام، مستلهماً واقع قطره، أو موجهاً بهذا الواقع وتحت ضغوطه، يعالجها وكأنها مشكلة عربية عامة، والنتيجة هي تعميم المشكل، بنقله من المستوى السياسي – مستوى مسألة الحكم والسلطة والديمقراطية – إلى مشكل نظري، إلى مشكل كيان ومشكل هوية، مشكل أصبح يعبر عنه من خلال التقابل الذي يقام بين الإسلام والعروبة، هكذا بصورة نظرية تجريدية تنتقل به من ظروفه التاريخية المحددة، وظروف القرن التاسع عشر وسياسة التتريك التي سلكتها السلطات العثمانية، في أوائل القرن بصورة خاصة، لتجعل منه مشكلاً تاريخياً يرجع البعض به إلى زمن ظهور الإسلام، والبعض الآخر إلى "عصر الشعوبية" في العصر العباسي الأول.
أعتقد أنه قد حان الوقت لكي نتخلص من هذا التعميم للمشاكل التي من هذا النوع، لأنه تعميم لا يخدم الفكر القومي ولا القضية القومية، بل على العكس يضع هذه القضية في أزمة دائمة مزمنة. وهل يمكن انتظار شيء آخر غير هذا من عملية تمديد مشاكل الحاضر المحدودة ضمن حدود مكانية وزمانية، وجعلها مشاكل "تاريخية" ملازمة لتاريخ الأمة العربية؟
المشكل الحقيقي: الديمقراطية
يرى الجابري أن الزوج: الدين/الدولة لا تختلف في هذا الصدد عن الزوج: الإسلام/العروبة، ولا يستسيغ الحديث عن مشكل اسمه الدين والدولة، في الوطن العربي الحديث والمعاصر. فلا يوجد في المغرب شيء اسمه مشكل الدين والدولة؟ ولكن أليست الجزائر وليبيا والسعودية واليمن والخليج... خالية هي الأخرى من هذا المشكل الذي يطلق عليه بعض الكتاب في المشرق اسم "مشكل العلمانية"؟ فليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح مسألة العلمانية فيه، بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا، والذي يتمحور أساساً في "فصل الدين عن الدولة"، هذا الفصل الذي لا معنى له، في أوروبا، من دون وجود الكنيسة التي كانت تتقاسم السلطة مع الدولة، السلطة على الأفراد. أما في الوطن العربي الحديث والمعاصر، وطن الدولة العربية (لا الولايات العربية) فليس هناك ما يبرر طرح المشكل بهذا الاسم وتحت هذا العنوان. ذلك أن الدول العربية اليوم، ومنذ قيام هذه الدول ككيانات حديثة ومستقلة، كلها دول "علمانية" في قوانينها وسلوكها وسياستها الداخلية... وحتى الدوال التي تتخذ من إعلان التمسك بالإسلام شعاراً سياسياً وأيديولوجياً لها، فإنها في الواقع العملي "علمانية" إلى حد كبير.
إن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن المشكل مختلف بتمامه، كلا، كل ما يريد الجابري التأكيد عليه هنا أيضاً أن مشكل تنظيم وترتيب العلاقة بين الدين والدولة ليس مشكلاً عربياً يعم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، بل هو مشكل قطري محلي يخص بضعة أقطار عربية في المشرق، وعلى رأسها سورية ولبنان والعراق والأردن. وغير خافٍ أن هذا المشكل يرجع في أصوله إلى القرن الماضي كذلك، إلى الصراع الذي قام بين عرب الشام، بل عرب المشرق عامة، وبين السلطة العثمانية التي كانت تحكم باسم الإسلام بلداناً عربية فيها أقليات دينية غير مسلمة؟ كانت السلطة العثمانية تمارس تحكمها باسم الإسلام، مما جعل المسألة تتخذ طابع الاضطهاد الديني: اضطهاد "دولة" الأغلبية المسلمة، أو التي تحكم باسمها، لأقليات دينية وطنية لها الحق نفسه، في الوطن، الذي لغيرها من السكان. في هذه الأقطار كان من المقبول تماماً أن تطرح مسألة "دين ودولة" ونوع العلاقة الواجب إقامتها بينهما، ولكن لا على أنها مشكلة "العلمانية" بالمفهوم الأوروبي للكلمة، بل على أنها مشكلة الديمقراطية، أعني مشكل تنظيم السلطة داخل دولة وطنية حديثة.
ويرى الجابري أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد استبدال اسم باسم لمشكل مطروح. كلا، إن الأمر يتعلق بتحديد طبيعة المشكل المطروح، وبالتالي بتلافي النتائج السلبية التي يؤدي إليها ويفرزها ويتسبب فيها الطرح السيئ للمشاكل. ذلك أنه عندما يأتي أحدنا اليوم، نحن المثقفين التقدميين الوحدويين، ويطرح مشاكل من هذا النوع وبهذه الصورة من التعميم ويطالب بإقرار "العلمانية" في الوطن العربي، ويجعل من هذا قضية سياسية وإيديولوجية، فإنه يعمل في الحقيقية على خلق مشكل، مشكل يبدأ من ردود الفعل السلبية التي تثيرها دعوته في أوساط واسعة من المثقفين الذين اعتدنا على تسميتهم بـ (العلماء التقليديين)، سواء كانوا ممن يتزيى بالزي التقليدي الوطني أو بالزي العصري الأوروبي. ذلك لأن هؤلاء سيهبون لا للمطالبة بإبقاء ما كان على ما كان، بل سيهبون للمطالبة فعلاً بالدولة الدينية مستندين إلى أن الإسلام، دين الأغلبية، في الوطن العربي، هو دين ودولة، وأن الدولة القائمة في الأقطار العربية لا تتوافر فيها الشروط التي تجعلها، في نظرهم، دولة المسلمين. وفي هذه الحالة لا أحد يستطيع إقناع هؤلاء بأن الدولة القائمة هي دولة إسلامية، بالمعنى الذي يفهمونه عن (الدولة الإسلامية) تماماً مثلما أنه لا أحد يستطيع أن يقنع الطرف الآخر المطالب بـ(العلمانية) بأن الدولة القائمة دولة علمانية، بالمعنى الذي يتصورون به (العلمانية). ومن هنا انعدام إمكانية أي حوار بناء، وبالتالي أي نقاش حول حقيقة المشكل المطروح.
السؤال هنا هو: ما حقيقة المشكل، هذا المطروح؟
والجابري لا يلغي المشكل مطلقاً، هكذا بجرة قلم، أو بكلمة غير مسؤولة، كلا. كل ما يريد التأكيد عليه هنا هو أن طريقة طرح المشكل غير سليمة، لا تعبر عن الواقع الحقيقي الذي يجسم المشكل ويغذيه. المشكل في الحقيقة هو تحديد هوية الدولة العربية القائمة اليوم. إن المُطالِبْ بالعلمانية محق في وصفه الدولة العربية القائمة اليوم بأنها غير علمانية، بالمفهوم الأوروبي للكلمة، والمُطالِبْ بالدولة الإسلامية محق هو الآخر في وصفه للدولة العربية القائمة اليوم بأنها (غير) مسلمة، الطرفان محقان فيما ينفيان، ولكنهما غير محقين فيما يثبتان: الطرف الأول مخطئ عندما يقول إن الدولة العربية الحالية دولة غير علمانية بمعنى أنها دينية، والطرف الثاني مخطئ هو الآخر عندما يقول أن هذه الدولة ذاتها دولة غير دينية أي علمانية.
وفي اعتقاد الجابري أن الدولة العربية الحالية لا تختلف عن الدولة العربية الإسلامية كما عرفها التاريخ منذ معاوية. أي منذ أن تأسست في المجتمع العربي الإسلامي الدولة بمعنى الكلمة، الدولة بوصفها مؤسسة قهرية تضع نفسها فوق المجتمع وتحكمه باسم الدين أو باسم المصلحة العامة، أو بغير ذلك من الشعارات. هذه الدولة لها خصائص ومميزات تختلف بها عن الدولة في العصور الوسطى المسيحية وعن الدولة الأوروبية الحديثة. والقضية الأساس في نظري هي تحليل طبيعة هذه الدولة دولة الماضي / الحاضر، دولة معاوية التي كررت نفسها وما زالت تكرر نفسها إلى اليوم، في الوطن العربي، سواء كدولة خلافة عظمى، أو كدولة قطرية إقليمية. هذه الدولة، دولة الماضي / الحاضر، في البلدان العربية لا تتحدد، في نظر الجابري، لا بواسطة مقولة (الدولة الدينية)، ولا بواسطة مقولة (الدولة العلمانية)، وبالتالي فالمشكل المطروح ليس مشكل (العلمانية) بمعنى فصل الدين عن الدولة.. وهل هما متصلان فعلاً؟ وبأية صورة؟
المشكل مطروح فعلاً، ولكن لا على أنه مشكل علاقة الدولة بالدين، أو الدين بالدولة.. بل على أنه مشكل الدولة ذاتها، سواء لبست لباساً دينياً، أو لباساً علمانياً.. المشكل هو: من يحكم، وما الذي يبرر سلطته ويؤسسها فعلاً؟ المشكل هو، مرة أخرى، مشكل الديمقراطية: مشكل انبثاق الحكم من إرادة المواطنين واختيارهم، وضمان إمكانية إسقاطه بإرادتهم واختيارهم كلما تبين لهم أنه لا يمثل إرادتهم واختيارهم. هذا هو المشكل الحقيقي. أما باقي الأسماء والشعارات فتحمل من الزيف أكثر مما تحمل من الحقيقة.
(العرب اليوم)
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير