آثار تجربة النظم العسكرية في العالم العربي
تركت النظم العسكرية العربية الآثار التالية:
1- إن شخص الحاكم متداخل في وعي جهاز السلطة، والجماهير، مع شخصية الدولة. ولهذا فإن الولاء السياسي يظل، في المقام الأول، ولاء لشخص الحاكم الأعلى، والخلاف مع شخص هذا الحاكم، الذي تطلق عليه كثير من الأنظمة اسم القيادة السياسية تجهيلاً لحقيقته وتلاعباً بالألفاظ والمصطلحات في أمر لا يحتمل التلاعب، هذا الخلاف يصنف على أنه خلاف مع الدولة ونقص في الولاء لها.
2- إن السلطات التنفيذية في أكثر الأقطار العربية تتمتع بنفوذ هائل، يرجع بعض أسبابه إلى طبيعة النظام العسكري في حد ذاته، فضلاً عن أن هذا الارتباط بين الظواهر الثلاث كان من شأنه أن يجمع القائم على رأس الدولة سلطات السياسة والتشريع والتنفيذ في يديه، وأن يصبح مصدراً للشرعية ومنبعاً للسلطة في المجتمع. والأخطر من ذلك أن زعامة التدخل العسكري وظروف ممارسة السلطة ونوع المسؤوليات المحمولة، كل ذلك قد رفع مثل هؤلاء الحكام إلى منزلة علية، فوق المنزلة الدستورية، وأكسبهم شرعية يتصورونها ذات طابع تاريخي. فتولدت عن هذه المنزلة علاقة من نمط أبوي بين القائد "والجماهير"، وشاع لديهم فهم خاص لنوع المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وللطريقة الفريدة التي يحق لهم أن يمارسوا بها النفوذ، لا يتقيدون فيها بآجال زمنية، ولا يطالبون بما يطالب به غيرهم من الحكام من التقيد بمرجع أو الالتزام بقانون، ولا يحاسبون حسابهم، ولا تكون مقاصدهم عرضة لريبة، ولا أفعالهم محلاً لجدال.
3- إن مثل هؤلاء الحكام يلازمهم الإحساس بعدم تمتعهم بشرعية حقيقية تؤمن استمرار حكمهم، فيلجأون إلى أمرين: أولهما، ملء المناصب ذات التأثير، خصوصاً في الجيوش وأجهزة الأمن بأتباع وعملاء وأشخاص ذوي ولاء شخصي مباشر لهم، يشكلون، في الغالب، حجاباً حاجزاً بينهم وبين الجماهير، كما يشكلون أداة للفساد والإفساد، نتيجة اضطرار الحكام إلى مواصلة العطاء لهم حفاظاً على ولائهم المشترى. وثانيهما، إقامة أجهزة أمن وقمع متعددة ومتداخلة الاختصاص في معظم الأحيان، وثقيلة اليد على حريات وحقوق الأفراد والأقليات وقوى المعارضة السياسية والاجتماعية. وأساس ذلك أن أمن الثورة يصبح في مقدمة الأولويات، ولذلك تدار الدولة وكأنها ثكنة عسكرية ضخمة يُجرى التركيز فيها، أولاً، على النظام وتنفيذ الأوامر. وهي ظاهرة تقف، بالضرورة، حاجزاً منيعاً في وجه الممارسة الديمقراطية الحقيقية، كما تفرض على المعارضة أن تلجأ إلى الوسائل الانقلابية للتعبير عن رأيها أو كسب الأنصار لمواقفها، أو محاولة التغيير السياسي والاجتماعي.
4- عدم حدوث تغيير في القيادات الحاكمة،يتناسب مع التغيير السياسي والاجتماعي الذي تحدثه هذه القيادات ذاتها في بنية مجتمعاتها، وبما يستوعب طلائع القوى الجديدة، خصوصاً العمال والمثقفين والشباب، حيث إن مطالب هذه القوى لم تعد تتركز فقط في الحصول على نصيب عادل من الثروة، وإنما التطلع أيضاً إلى المشاركة بدور أساسي في ممارسة السلطة.
وتنبغي الإشارة هنا، إلى الثبات شبه الكامل لرئيس الجمهورية وأحياناً للرجل الثاني في الدولة، رغم كثرة التعديلات الدستورية والوزارية والبرلمانية، التي تعتبر أحياناً أداة لتحقيق مثل هذا الثبات. وليس هناك اعتراض من حيث المبدأ على مثل هذا الثبات شبه الكامل لرئيس الجمهورية، بل إنه قد يكون مطلوباً لمواجهة التحديات القومية والحضارية وتحديات بناء الدولة القومية الحديثة. ولكن مصدر الاعتراض الأساسي ينبع من الاعتبارات التالية:
أولاً: اعتماده على الدعامة العسكرية أساساً، سواء بالشكل المباشر أو من خلف الستارة، فضلاً عن شبكة معقدة من أجهزة الأمن.
ثانياً: عدم تهيئة الظروف اللازمة لبناء المؤسسات وإنماء قواعد الممارسة السياسية بشكل يكفل انتقالاً سلمياً ودستورياً للسلطة.
ثالثاً: تبلور شعور يقيني لدى بعض هؤلاء الحكام بأن لهم على مواطنيهم وصاية سياسية مستمدة مما يرون هؤلاء المواطنين عليه من حال التخلف والقصور.
رابعاً: احتمالات العنف السياسي المرتبطة بشيوع مثل هذه النواحي،حيث لا أمل في تداول السلطة بشكل منظم، وحيث تتجسد أساليب تغيير الحاكم في الوفاة، الطبيعية أو غير الطبيعية (محاولات الاغتيال العلني أو السري)، أو في التدخل العسكري والأساليب الانقلابية إجمالاً.
خامساً: ينبع من الدور الطاغي الذي أصبحت تمارسه مؤسسة الرئاسة في هذه النظم، ليس فقط من خلال سلطات الرئيس الرسمية والفعلية، وإنما أيضاً من خلال رجال مكتبه وشبكة واسعة من المستشارين والمسؤولين وغير المسؤولين، فضلاً عن الحرس الجمهوري.
سادساً: إن مشكلة الجيش وأجهزة الأمن عموماً تأخذ أهميتها الحقيقية من ظاهرة أبدية السلطة، فلا شك في أن الظاهرة العسكرية قد استمدت جانباً أساسياً من أسبابها من هذه الظاهرة نفسها، ولا سيما أن معظم الدول العربية كانت تنتمي إلى نمط الملكيات الوراثية، جنباً إلى جنب مع انعدام وسائل تغيير هذه النظم بشكل سلمي. ولكن مع صعود النخبة العسكرية إلى السلطة، الذي يقترن أيضاً بالظاهرة نفسها، حيث تصبح القوى العسكرية الدعامة الأساسية والمباشرة لفرضها، فإن التهديدات التي يتعرض لها النظام السياسي والمجتمع كله تصبح غاية في الخطورة. وبالتالي يمكن القول إن المنهج الحقيقي لمنع الجيش من الاشتغال بالسياسة يصبح فعالاً حين يكون هناك تداول حقيقي للسلطة. فهذا التداول يؤدي إلى تحقيق التمايز بين أمور عدة تتعرض في العالم الثالث، عموماً، إلى عملية اختزال مستمرة. فالشعب أو الوطن يختزل إلى الدولة، والدولة تختزل إلى الحزب، والحزب يختزل إلى الرئيس. وهكذا لا يبقى هناك مجال للتمييز بين سياسة الدولة كسياسة وطنية عليا، والسياسة اليومية كما تمارسها الأحزاب، ما يمكن أن يكون موضوع تداول. لماذا لا تحدث في الدول الغربية – مثلاً – انقلابات عسكرية؟ ولمَ تظل فرنسا –مثلاً- من دون وزارة في وقت من الأوقات لمدى شهرين، ومع ذلك لا يشعر المواطن بأية مشكلة؟ إن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى أن الإدارة العامة مستقلة تماماً، أو إلى حد كبير جداً، إزاء التركيب السياسي الأعلى، أي أن تداول الحكم هو الذي يفسر تدعيم وجود الإدارة، وتدعيم حياد الجيش وابتعاده عن السياسة، وبالعكس فإن الاتجاه إلى أبدية السلطة وتركيزها، يفرض زيادة وزن الجيش وأجهزة الأمن عموماً.
فقد وصف الشاعر نزار قباني وضع الأمة العربية في إحدى قصائده قائلاً:
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية
فنحن شعوب من الجاهلية
ونحن التقلب
ونحن التذبذب
والباطنية
ها نحن يا بلقيس
ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية
ها نحن ندخل في التّوحش
والتخلف والبشاعة والوضاعة
ندخل مرة أخرى... عصور البربرية
العرب اليوم