jo24_banner
jo24_banner

ظاهرة العنف الجامعي والمجتمعي في الأردن

أ.د.أحمد يوسف التل
جو 24 :

إن العنف الجامعي كما عهدناه في الجامعات الأردنية الرسمية والأهلية خلال السنوات العشرين الماضية هو شكل من أشكال العنف المنظم الذي ترتكبه بعض الجماعات السياسية. وقد جرى العرف على إطلاق تعبير "الإرهاب" للدلالة على تلك الأعمال، ليس فقط لما تنطوي عليه من ترويع وتخويف للمواطنين، إنما أيضاً للتأكيد على طابعها الخارج عن الشرعية، وعلى ما تحدثه من أضرار مادية ومعنوية بالمجتمع كله.
فالعنف الجامعي الذي نشهده في الجامعات الأردنية الآن هو أداة لصراع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، تمليها إمكانات وظروف القوى التي تلجأ إليه، وهذا يعني أنه إذا ما توافرت ظروف وإمكانات أكبر فإن تلك القوى سوف تكون مستعدة لتطوير أدواتها وأساليبها. وهذا العنف منظم، ومخطط، وذو أهداف محددة ومتراكمة. أي أنه نتيجة إستراتيجية معدة سلفاً يجري تنفيذها على امتداد الوطن الأردني كله.
أسباب انتشار ظاهرة العنف في الأردن
العوامل النفسية
أكدت الدراسات أن العوامل التي أدَّت إلى انتشار ظاهرة العنف في الجامعات الأردنية وقطاعات المجتمع الأخرى يمكن حصرها بما يلي:
أولاً: يرى علم النفس أن العدوان سلوك خاص له تفسيره، وأغراضه، والعوامل المحركة له، ومن الممكن الوصول إليه من تحليل الموقف العدواني. إن إنزال الأذى والضرر بالآخرين هو في النهاية نوع من الانتقام، والانتقام نفسه في النهاية نوع من دفاع الذات عن نفسها أمام تهديد تواجهه حالياً أو واجهته من قبل. والعراقيل التي تمنع إرضاء الدوافع وإشباعها تؤدي إلى الإحباط وتسعى الشخصية المُحْبَطَةْ إلى اتقاء الإحباط لأنه حالة مؤلمة، فتأخذ العدوان بديلاً عن هذه الحالة أو تلجأ إلى الاستسلام. وقد ينتهي الإحباط إلى القلق ويكون القلق نفسه الدافع إلى العدوان.
ثانياً: إن غياب الديمقراطية أو تطبيقها بشكل مشوه، وشيوع الاستبداد والظلم والفساد الإداري والمالي والسياسي والاقتصادي وإقصاء الشعب عن المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياته ومصيره وتقسيم الشعب إلى فئة الموالاة وفئة المعارضة يدفع الشعب بأن لا يحس بالمشاركة في الحياة السياسية، وقد يدفعه هذا الحال في بعض الأحيان وأمام تصرفات الدولة في حل مشكلات معينة بصورة لا ترضي الشعب إلى أن ينفعل بصورة عنيفة فيقع في براثن الجريمة السياسية.
ثالثاً: إن حل مشكلة العنف في الأردن ليس في يد رجل القانون فحسب، بل يحتاج إلى تدخل رجل علم الاجتماع، ذلك أن الإجرام يقف بين غرائز إنسانية أهمها غريزة الحرية وغريزة السيطرة. ويجب أن لا ننسى أن شوق الإنسان للحرية هو الطابع المميز لصفته الإنسانية العليا، وتظهر هذه النزعة حينما يساءُ استخدام الحرية وتقيد حياة الإنسان بقيود مصطنعة ظالمة وجائرة، مما يدفع الإنسان المظلوم والمُضطهَد إلى التدمير والتخريب والقتل كأساليب لإثبات وجوده. كما أن غريزة حب السلطة والسيطرة يجب أن تحدها حدود وإلا أدى عدم السيطرة عليها إلى حدوث ظلم بيّن أو استبداد مطلق وإلى شيوع جوٍ من الفزع والرعب بين الجماهير. لذا يجب أن تهتم الدولة بوضع ضوابط أو قيود تحدُّ من انفلات هاتين الغريزتين وإلى تحقيق التوازن بينهما حتى تتحقق الوقاية الفعالة من عمليات العنف. فالوقاية خير من العلاج.
رابعاً: يكمن جوهر المشكلة في أن حياة التمرد والعنف السياسي تتولد من "الكبت"، وهذا الكبت يولد التمرد. ولكن من أين يأتي الكبت؟ إن الكبت يتولد في الطبقة الفقيرة اجتماعياً نتيجة فوارق الدخل بين الطبقات بوجه عام. فلا الطبقة الغنية ولا الطبقة المتوسطة تحس بهذا الكبت في عدم إشباعهم لرغباتهم وغرائزهم. ومن ثم فكلما زاد حجم الطبقة الفقيرة في المجتمع زاد "الغليان" في نفوس المنتمين إلى هذه الطبقة. ونظراً لسوء الأوضاع الاقتصادية في الأردن فإن حجم الطبقة المتوسطة قد بدأ يتناقص ويهبط معظمهم منذ خمسة عقود إلى مستوى الطبقة الفقيرة، مما أدى إلى اتساع حجم الطبقة الفقيرة وبالتالي مستوى الطبقة الفقيرة، مما يؤدي حتماً إلى اتساع حجم الطبقة الفقيرة وبالتالي زيادة عدد المتذمرين والذين يكونون الفريسة السهلة لمنظمات الإرهاب والتمرد في معظم المدن والقرى الأردنية وباديتها.
خامساً: يمكن القول إن إخفاق الحكومات الأردنية المتعاقبة في تحقيق الأهداف التي كانت تضعها لنفسها، في التنمية والعدالة الاجتماعية والحرية الوطنية والتحرير والأمن والسيادة، أدى إلى تغيير عام في المناخ العقائدي الأردني منذ نهاية السبعينيات. وقد بدأت الردة على الفكر الشمولي تتخذ طابعاً أكثر عنفاً وقوة منذ نهاية الثمانينيات التي شهدت عودة قوية لقيم الفكر الديمقراطي عبرت عنه الكتابات والندوات وترخيص الأحزاب السياسية، كما جسَّدته الأزمة العميقة والقاتلة التي بدأت تعيشها الأحزاب السياسية الأردنية عموماً وسكان القرى الأردنية بشكل خاص. ولم يتأخر الواقع الاجتماعي عن التعبير عن هذا التحول العميق في الوعي الأردني السياسي العام. فبعد سلسلة من الانتفاضات الأهلية وحرب أيلول 1970 التي كانت بمثابة الردود العفوية على أزمة الهوية الوطنية والأزمة الاقتصادية وتهميش الأردنيين، وتفاقم سوء الأحوال المعيشية، وتراجع هيبة الدولة، وكان آخرها الحراك الأردني في عام 2011 وما زال مستمراً في عام 2013 حيث أخذت الفكرة الديمقراطية تفرض نفسها من جديد على الرأي العام الرسمي والشعبي. ونستطيع القول إن الديمقراطية الحقيقية هي العقيدة الرئيسية التي تكتسب مواقع جديدة في حجر الرأي العام الأردني، رغم ما تتعرض له من حصار وعمليات مقاومة وتزوير وإجهاض، ليس من قبل الجمهور بالتأكيد لكن من قبل السلطات الرسمية والنخب الحاكمة.
العوامل الاقتصادية
تتمثل العوامل الاقتصادية في فشل الإستراتيجية الاقتصادية التي استندت إلى قواعد الاقتراض المستمر من البنك الدولي، وخصخصة شركات القطاع العام، وشيوع ظاهرة الفساد المالي والإداري التي رافقت تلك الخصخصة، وارتفاع الأسعار بشكل لا يطاق وعدم رفع الرواتب والأجور بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار والتضخم، وعجز كبير متراكم في موازنة الدولة، وارتفاع المديونية إلى درجة خطيرة، ومسيرات شعبية احتجاجية يومية وأسبوعية في معظم المدن الأردنية تجاوز عددها العشرة آلاف مسيرة خلال السنتين الماضيتين تنادي بإصلاح النظام ومكافحة الفساد ولم تتوقف حتى اليوم.
العوامل السياسية
أولا: ترخيص أحزاب في الأردن في عام 1989 تجاوز عددها الثلاثين حزباً تشكلت من أطياف متعددة. وهي إما أحزاب عقائدية عريقة عادت مع انشقاقاتها المتعددة، وإما تنظيمات فدائية عادت للعمل الحزبي وإما أحزاب وسطية جديدة على الساحة الأردنية تختلف مع ما استقر في ضمير النخبة، وهي تعاني مما تعاني منه الأحزاب العريقة من فردية وفئوية أو جهوية. ووصف جلالة الملك الحسين بن طلال هذه الأحزاب بأنها محكومة بمواقف وتوجيهات قيادتها من خارج الوطن. فقد كانت وما زالت مرجعيات تلك الأحزاب غير أردنية، (وتأخذ توجيهاتها وتمويلها من الخارج ولم تكن برامجها وأهدافها أردنية. ويتضح من متابعة ممارسات الأحزاب الأردنية المعارضة منذ عام 2011 وحتى اليوم أن معظم هذه الأحزاب اتسمت ممارساتها بنفس السمات التي وردت في خطاب جلالة الملك الحسين بن طلال عام 1992، وخاضت هذه الأحزاب في عام 2013 انتخابات المجلس النيابي السابع عشر على أساس تلك السمات مما دفع أكثر من 65% من الأردنيين إلى اعتبار انتخابات هذا المجلس غير شرعية وغير ديمقراطية.
ثالثا: وَصَفَ أستاذ القانون الدستوري الدكتور "محمد الحموري" الإصلاحات الدستورية التي أجراها النظام الأردني خلال عام 2012 بأنها إصلاحات شكلية ولا تمس جوهر الصراع والأزمات والفساد في الأردن. وجاءت هذه الإصلاحات غير مقنعة للأردنيين لأنها استثنت استكمال قرار فك الارتباط وعملت على تثبيت عملية دمج الشعب الفلسطيني بالشعب الأردني مما يعكس طمس الهوية الوطنية الأردنية واستكمال شروط تحقيق الوطن البديل للفلسطينيين في الأردن.
رابعا: شيوع الظواهر والسمات السلبية التالية في المجتمع الأردني: الاختلاف على الهوية، انعدام العقلانية، تراجع في القيم، غياب الديمقراطية الحقيقية، الافتقار للحوار، الفساد الإداري، التعصب والنظرة الماضوية، الطبقية الحادة، حالة الاغتراب، كثرة تغيير الوزارات وتهميش الأردنيين.
العوامل الاجتماعية
أولاً: كان فشل الإستراتيجية الاجتماعية خلال الستين سنة الماضية سبباً رئيسياً لأعمال العنف الجامعي وغير الجامعي. فقد وجد الأردن نفسه بعد وضع مبادئ هذه الإستراتيجية بستين سنة يواجه إخفاقاً في تطبيق أهداف هذه الإستراتيجية، ويواجه مجموعة الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والاجتماعية التي تمثلت في صراع حاد حول مفهوم الهوية الوطنية الموحدة، وعقبات في طريق المسيرة الديمقراطية المزعومة، واتساع الفجوة بين طبقة الأغنياء والطبقتين الوسطى والدنيا، وغياب العدالة الاجتماعية، وشيوع التفكك الاجتماعي، وانتشار الجريمة المنظمة، والتراجع الرهيب في القيم، وشيوع ظاهرة الفساد المكشوف والمستور بمختلف أنواعه، والاعتداء على أملاك الدولة، وتعددية حزبية معادية ومدمرة للكيان الأردني، وتعميق ظاهرة الفقر والبطالة والعنف المجتمعي في الأردن.
ثانياً: التعسف في استعمال السلطة
يعيش المجتمع الأردني في أزمة تتمثل في الممارسة التعسفية للسلطة. لقد سلبت الدولة المجتمع الأردني من وظائفه الحيوية واحتكرتها لنفسها، وجرّدت الشعب من حقوقه الإنسانية ومنها حق المشاركة في الحياة السياسية وحق التعبير عن آرائه المستقلة. وقد تمكنت السلطات الحاكمة من فرض هيمنتها على المجتمع الأردني بوسائل مختلفة منها السيطرة على العشيرة والقبيلة والطائفة والدين والأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات المهنية. وأصبح المجتمع الأردني يتوزع سياسياً واجتماعياً وفكرياً بين ثلاثة تيارات فكرية أساسية هي: تيار الفكر المحافظ، تيار الفكر الإصلاحي وتيار الفكر النقدي الثوري. وتكاد هذه التيارات تتوازى أو تتقارب مع ما يُعرف في الثقافة السياسية باليمين والوسط واليسار. وهذه تكاد تتوازى بدورها إلى حدٍّ بعيد مع الانقسامات بين الطبقة البرجوازية الكبرى، والطبقة الوسطى القديمة والجديدة، والطبقة الشعبية الكادحة. وبكلام آخر، لا بد من تحليل ظاهرة العنف الجامعي على أنه جزء لا يتجزأ من ظاهرة الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية المتصارعة على الساحة الأردنية.
ثالثاً: عدم تلبية حاجات المواطنين الأساسية
إن حرمان المواطنين من حقهم في تلبية حاجاتهم الاجتماعية يخلق لديهم الشعور بالإحباط ويدفعهم إلى الانحراف وممارسة أعمال العنف، وهذه الحاجات هي: الحاجات الجسدية، الحاجة إلى المركز الاجتماعي، الحاجة إلى الأمن بمفهومه الشامل، الحاجة إلى الاستقلال، الحاجة إلى الإنجاز وتحقيق الذات.
ونتيجة فشل الدولة في وضع إستراتيجية اجتماعية تلبي حاجات الأردنيين من السكان الأصليين وظروفهم في المدن والأرياف والبادية، أصبح المجتمع الأردني يعاني من الفردية، والمحسوبية، والتشيع للعنصرية والطائفية والقبلية، واللامبالاة، والإقليمية، وتشكل جميعها مشكلات وطنية اجتماعية تُشتِّت الآراء وتُضعِف الشعور بالمسؤولية وتسبب العنف في المجتمع.
رابعاً: الهجرات الخارجية المتتالية إلى الأردن
ومن بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي ساهمت في نشر العنف بين الأردنيين الهجرات الطوعية والقسرية الواسعة من خارج الأردن إلى داخله، ومن الريف إلى المدينة، واتساع الفجوات بين الأغنياء والفقراء وما رافقها من تهديد للطبقة الوسطى، وانتشار البطالة بين الجامعيين وغير الجامعيين، وارتفاع الأسعار، وسياسات الانفتاح وما نتج عنها من مظاهر الترف والابتذال والاستهلاك وسط الحرمان، وانتشار المحسوبية والفساد والرشوة، وفشل خطط التنمية ومشاريعها، والتفسخ الاجتماعي، والأزمات السكنية وغيرها.
خامساً: حالة الاغتراب السياسي لدى الأردنيين
ولظاهرة العنف الطلابي علاقة حميمة بحالة الاغتراب السياسي أو بأزمة المجتمع المدني وهيمنة الدولة على جوانب الحياة كافة وتهميشها الشعب بعدم إشراكه في الحياة العامة وتعطيل قدراته. وكان من نتائج غياب الديمقراطية وتهميش الشعب الأردني إخفاق عملية التغيير التنموية في أبعادها كافة. ولم تقتصر عملية التهميش هذه على السلطات الحاكمة، بل إن الأحزاب القومية والاشتراكية كانت لا تقل قمعية داخل صفوفها، فاهتمت بمسائل الوحدة السياسية المجردة مهملة أهمية العمل على قيام نظام ديمقراطي تعددي.
سادساً: شعور الأردنيين بالاحباط
وبين أسباب شيوع ظاهرة العنف الأوضاع النفسية وحالة القنوط العام، فهي صرخة إحباط بعد زمن طويل من الإخفاق والقمع والتهميش. إنها ردة فعل لليأس العام وحالة الاغتراب، وعدم القدرة على تحمل الاهانات في الداخل ومن الخارج، ونتيجة أزمات متراكمة من دون حلول لزمن بعيد، وليس بسبب إخفاق التحديث والحداثة فحسب. وقد شكّل الدين دائماً ملجأ في الأزمات للفئات والطبقات العالقة في أسر شبكات الفقر والحرمان والقنوط، خاصة حين يرافقها حدوث خلل في صلب القيم العامة التي أخذت تنهار الواحدة بعد الأخرى إن لم يكن معاً. من هنا أن البعض يُرجع سرّ قوة الأصوليين إلى امتلاكهم برنامجاً أخلاقياً.
العوامل الثقافية
أولاً: طغيان الدولة: سلطوية النظام أو غياب الديمقراطية والحريات العامة
يوصف المجتمع الأردني بأنه مجتمع حكومي. نقول ذلك لأن الحكومات الأردنية المتعاقبة تمكّنت من تعطيل المجتمع المدني أو الحيلولة دون قيامه، بحرمان الشعب من حرياته وحقوقه الإنسانية ومنعه من المشاركة في تقرير مصيره. ألغت الحكومات الأحزاب والتنظيمات والحركات الاجتماعية الشعبية حيث وُجدت، ومنعت قيامها حيث لم توجد، وجردّت المواطن من حرية التعبير والبحث والنقاش والعمل السياسي. بهذا امتلكت الدولة الإنسان بدل أن يمتلكها وحوّلته إلى كائن عاجز مهمّش لا شأن له، فتصرفت الحكومات بحياة الناس كما لو أنها امتداد لملكيتها الخاصة وذاتها المتضخمة. وبغياب سياسات تحمي الإنسان الأردني، أصبحت السياسة الممارسة لعبة لا معايير لها غير معايير البطش. وفي مختلف الحالات ليست الحكومات ممثلة للشعب أو حَكَماً نزيهاً حيادياً بين طبقاته وجماعاته وأفراده. كل ما في الأمر أنها تمثل ذاتها ومصالح الموالين لها من دون مساءلة ومحاسبة من قبل حتى جماعاتها والقوى المتحالفة معها.
فقد عطّلت الحكومات الأردنية الحياة الحزبية من عام 1958 وحتى عام 1988، وهمّشت الشعب وأصدرت قوانين تحد من قيام الأحزاب والجمعيات والإضرابات والمظاهرات العامة أو تمنعها، واستملكت وسائل الإعلام أو فرضت القيود عليها. وقد لجأت الدولة الأردنية الى طرد المعارضين من وظائفهم والسجن ومعاقبة أقارب المغضوب عليهم، فساد الخوف والشك وتُوّج الرعب ملكاً على المجتمع. ولقد أصبح مجرد التعاطف مع قضية أو جماعة لا ترضى الدولة عنها مغامرة كبرى من قبل المواطن، فقد يتعرض لعقوبات صارمة وللاضطهاد في رزقه وكرامته. وبهذا أصبح الإنسان نفسه يعيش داخل سجون غير مرئية ومن نوعيات مختلفة داخل السجن الكبير. فقد أمضى المفكر الأردني اليساري الدكتور يعقوب زيادين أكثر من ثماني سنوات في السجون الأردنية عقاباً له على فكره الماركسي ومطالبته بتلبية حقوق أبناء
الطبقة الوسطى والكادحين
من العمال والفلاحين
ثانياً: التفتت الاجتماعي والسياسي والعودة إلى الولاءات التقليدية البدئية
يكفي أن نتذكر بأن الولاء المجتمعي والولاء الطبقي يضعف ويتراجع لصالح الانتماءات إلى جماعات وسيطة بين الأفراد والمجتمع. وقد انشغلت الجماهير الشعبية بمهمات تأمين معيشتها اليومية، وغرقت في الغيبيات والمطلقات والعصبيات المحلية والفئوية، واستسلمت لنظام المحسوبية في تدبير شؤونها والحصول على خدماتها الاجتماعية من خلالها، بل إن الكثير من الأحزاب التقدمية فقدت بعض أعضائها وقياداتها ومفكريها ممن عادوا إلى أحضان طوائفهم وقبائلهم وعرقياتهم وتراث أسلافهم. فعندما تفشل الحكومات في توفير الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمواطنين فليس أمام المواطنين أي خيار سوى اللجوء إلى العشيرة أو القبيلة لتأمين الأمن المفقود.
ثالثاً: سيطرة الخلافات الثانوية ضمن الأحزاب نفسها وفي ما بينها
تتحمّل الأحزاب التقدمية مسؤولية إخفاقها على الأقل جزئياً، بسبب أنها تنجرف في متاهاتها من دون أن تميّز بين التناقضات الأساسية والخلافات الثانوية. لذلك كثيراً ما خاضت الأحزاب معارك جانبية خاسرة في الوقت الذي كان يجب أن تعرف كيف تتجاوز خلافاتها الداخلية وتلك التي تقوم بينها وبين الأحزاب الأخرى التي تشاركها أهدافاً وغايات متقاربة ومتكاملة.
رابعاً: غياب الفكر المنبثق من الواقع الاجتماعي التعددي
إن الفكر اليساري الأردني، في توجهه إلى المثقفين وبعده عن جماهيره، شأنه بذلك شأن الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، لم يتمكن من أن يعبّر عن هواجس الشعب وأمانيه تعبيراً حسياً جديداً. ولا عجب في هذه الحالة أن تكون اللغة السياسية المتداولة أقرب إلى اللغة المثالية الفوقية منها إلى اللغة الاجتماعية العلمية، وإن كررت بعض شعاراتها ومصطلحاتها. لقد أظهرت القيادات الحزبية ميلاً للخوض في النقاشات السياسية والثقافية متوجهة للنخبة الفكرية على حساب الاتصال المكثف بالجماهير، بمن فيهم العمال والفلاحون وتنظيمهم وتحضيرهم للمشاركة في الحياة السياسية، فعملت ليس مع الشعب، بل بالوصاية عليه.
أوضاع الجامعات الأردنية وعلاقتها بالعنف الجامعي والمجتمعي
أخطر ما واجه الجامعات الأردنية هي تلك الضربات التي جاءت من خارج الجامعات على أيدي سلطات مستبدة تفرض بالقوة عقيدتها الدينية، أو سياستها الحكمية، أو مذهبيتها الأيديولوجية، أو رؤيتها العلمية... وكانت وسائلها الأكثر استخداماً في بسط إرادتها:
- إرهاب بوليسي قد يؤدي إلى السجن والتعذيب والقتل أحياناً.
- فصل الأساتذة أو طردهم أو نقلهم للعمل خارج الجامعات، والتضييق عليهم في حياتهم اليومية.
- تحريم البحث في موضوعات بذاتها ومنع تدريسها ونشرها.
- انتهاك الاستقلالية المكانية واستباحة حرم الجامعة.
- الإلزام بالطاعة وأداء قسم الولاء للسلطة.
- ربط الجامعة بقوانين ونظم تلغي استقلاليتها وتضمن تبعيتها.
وأَخطر ما أسفرت عنه هذه الأساليب: تعطيل الدراسة، وهجر أصحاب الكفاءات وإقصائهم، وتحجيم البحث العلمي، وسيطرة التقاليد والواسطة والمحسوبية، وإذلال العلماء وتهميشهم، وتركيع الجامعات وتعويق مسيرة التقدم الديمقراطي فيها.
وأظهرت الدراسة التي أجريتها عام 1998 بتكليف من مؤسسة آل البيت، أن نظام التعليم العالي في الأردن يعاني من عدد كبير من المشكلات والتحديات التي لعبت دوراً رئيسياً في بروز العنف الطلابي والمجتمعي، من أبرزها:
1- التزايد السريع والكبير في أعداد الطلاب الراغبين في الالتحاق بالجامعات الأردنية الرسمية، وعدم قدرة هذه الجامعات على استيعاب جميع الطلبة الراغبين في الالتحاق بتلك الجامعات.
2- يتصف نظام التعليم العالي في الأردن بالمحافظة والتقليدية، وضعف المرونة في مواجهة التطورات السريعة والمتجددة في عالم المعرفة والتكنولوجيا، وتدني مستوى التعليم وضعف مستوى الخريجين في هذه الجامعات.
3- ضعف المواءمة أو الموازنة بين نواتج التعليم العالي واحتياجات خطط التنمية الوطنية وسوق العمل.
4- الأزمة المالية التي تتمثل في تراجع قدرة الحكومة في تقديم الدعم المالي السنوي للجامعات الرسمية وعجز مالي سنوي كبير من الموازنات السنوية للجامعات مما أثر سلباً على مستوى الأداء في هذه الجامعات.
5- قلة مخصصات البحث العلمي في الجامعات الأردنية الرسمية.
6- تدني مستوى الخدمات التعليمية في القرى والأرياف والبادية الأردنية من حيث مستوى الأبنية المدرسية والهيئات التعليمية والتجهيزات التربوية، والخدمات الطلابية بشكل يجعل خريجي تلك المدارس غير مؤهلين لمنافسة طلبة المدارس النموذجية في المدن الرئيسية.
7- الحاجة الماسة إلى ضبط الجودة وتحسين النوعية في مدخلات وعمليات ونواتج التعليم العالي في الأردن ومن واجب الجامعات الأردنية تقديم مساقات علاجية للطلبة الجدد القادمين من مدارس القرى والأرياف والبادية لمعالجة نقاط الضعف العلمي عندهم، بدلاً من أن نسمع من كبار المسؤولين عن التعليم العالي مقترحات تدعو إلى جعل القبول في الجامعات الأردنية على أساس التنافس في معدلات شهادة الطلبة في شهادة الدراسة الثانوية.
8- ارتفاع نسبة البطالة بين الخريجين من مؤسسات التعليم العالي في الأردن، وانتشار ظاهرة الفساد والترهل في أجهزة الدولة، والاعتماد على العمالة الوافدة، والتضخم وارتفاع الأسعار دون أن يصاحبه ارتفاع مماثل في الرواتب، وازدياد نسبة الفقر وازدياد حجم الطبقة الدنيا في المجتمع، وتناقص حجم الطبقة الوسطى.
9- ارتفاع تكاليف الدراسة في الجامعات الرسمية والخاصة على الطالب الذي لا تسمح له ظروفه المعيشية السيئة بتغطية تلك التكاليف.
إن مواجهة هذه التحديات هي مسؤولية مشتركة بين الحكومة ومؤسسات التعليم العالي والقطاع الخاص، والشعب بشكل عام، لأن هذه التحديات متشابكة ومتداخلة وتهم جميع المواطنين وتلعب دوراً مهماً في انتشار ظاهرة العنف الجامعي والعنف المجتمعي.
أوضاع التعليم العام في الأردن
خلاصة:
نستخلص مما تقدم أن العنف الجامعي والعنف المجتمعي مرفوض ومستنكر من جميع مكونات المجتمع الأردني الرسمية والأهلية، وأن هذا العنف لون من ألوان الإرهاب مهما كانت دوافعه أو مبرراته. وهناك أسباب لبروز ظاهرة العنف السياسي في الأردن تتمثل بأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. فإذا كانت المجتمعات الرأسمالية تعاني غياب العدالة الاجتماعية، والمجتمعات الاشتراكية تعاني غياب الحرية، فإن المجتمع الأردني يعاني غياب كل من الحرية والعدالة الاجتمــــاعية والديمـــقراطية.
وتبين في هذا المقال أن عناصر أزمة المجتمع الأردني جاءت نتيجة السياسات الخاطئة التي ارتكبتها الحكومات الأردنية المتعاقبة والتي أدت إلى وجود فروق طبقية حادة تخلق فجوات بين القلة الغنية والكثرة الفقيرة، وتعمق حالة الاغتراب وحدوث أزمات اقتصادية مستعصية بحيث تهدد الطبقة الوسطى بشكل خاص، وتفاقم أزمة المجتمع المدني نتيجة سلطوية الدولة وهيمنتها على المجتمع، وقيام خلل عام في التوازنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وثبوت فشل الطبقة الحاكمة في مواجهة التحديات التاريخية التي تعرض لها المجتمع الأردني، وإخفاق الدولة في التعامل مع خطط التنمية، وفقدان شرعية معظم الحكومات الأردنية السابقة. وليس أمام القيادة الأردنية سوى معالجة الأزمات وإزالة التشوهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يعاني منها الشعب الأردني كما وردت في هذا المقال. ويخطئ من يعتبر أن النظام العشائري الأردني هو المسؤول عن بروز ظاهرة العنف الجامعي والمجتمعي، لأن المسؤول الأول والأخير هو الحكومات الأردنية المتعاقبة بسبب فشلها في حماية الشعب الأردني من الاستبداد والظلم والفساد، وفشلت في توفير الحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان والعيش الكريم لأكثر من 80% من المواطنين.

العرب اليوم

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير