نظرية ارتباط الماضي بالحاضر
أ.د.أحمد يوسف التل
جو 24 : ذهب بعض الناس إلى القول بأن التاريخ لا وجود له إلا في ذهن المؤرخ المهتم به، ولنضرب مثلاً يوضح ما يريدون فنقول إن الدولة الأموية –مثلاً- دولة مضت وانقضت ولم يعد لها وجود أصلاً، حتى الكتب التي تروي تاريخها لا تحيي هذا التاريخ إلا بالنسبة لمن يفتح هذه الكتب ليقرأ شيئاً فيها، ويقولون إنه حتى في هذه الحالة فإن الدولة الأموية قد ذهبت لحال سبيلها، وما نقرأ إنما هو تقرير –أو تقارير- عما كان في أيامها، وعلى هذا فهذه الدولة حية فقط بالنسبة لمؤرخها ساعة يفكر فيها. وهم يرون أن التاريخ أقل وجوداً من الأدب مثلاً، فإننا نتحدث عن الشاعر المتنبي نفسه وديوانه بين أيدينا، وهو شعر مكتوب يقرأ اليوم والغد كما قرأ بالأمس، فهو شيء مادي موجود، أما معاوية بن أبي سفيان فأين هو وليس لدينا من آثاره المادية شيء؟ وليس لدينا عنه إلا أخبار متضاربة، الكثير منها موضوع بشهادة الكثير من المؤرخين.
ولولا أن الدولة الرمانية خلفت آثاراً من عمل الرومان في إيطاليا والبلاد التي حكمتها لما كان هناك دليل ملموس على أن هناك دولة قامت اسمها الدولة الرومانية. وهناك شعوب أضخم من شعب روما عاشت ومضت وليس هناك ما يدل عليها إلا صفحات الأخبار وهي –في رأيهم- موضع شك كبير، ومثال ذلك مغول جنكيز خان الذين خربوا ونهبوا وأحرقوا ومضوا مخلفين وراءهم الدمار، ثم قام البشر بتعمير ما خرب المغول، فزالت آثارهم بالجملة، وهم لا يوجدون إلا بالنسبة للمؤرخ الذي يتطلب أخبارهم وأخبار عصرهم. وهذا القول يدل على قصور في إدراك معنى التاريخ ومعنى العلم كله، لأن الأخبار ليست مجرد كلام مدون في الكتب، بل هي تجارب، والتجارب تبقى حية بثمراتها دون أن يكون هناك شاهد عليها بالضرورة. فلو فرضنا مثلاً أن المصريين القدماء لم يخلفوا هذه الآثار السامقة، دليلاً على وجودهم وشاهداً على ما عملوا، لبقيت ثمرات تجاربهم شواهد على وجودهم، لأن قدماء المصريين وغيرهم من شعوب الحضارة لم يعيشوا ويموتوا فحسب ، بل هم فكروا وعملوا وشادوا وابتكروا، هذا الذي شادوه وابتكروه لم يذهب سدى بانقضاء عصورهم، بل بقيت ثمراته تراثاً أفاد منه من عاصرهم وجاء بعدهم من الشعوب، ولنكتف هنا بمثل واحد يؤيد ما نقول ، فإن المصريين القدماء كانت لهم تجارب كثيرة في الطب والعلاج، فقد شرحوا الأجساد وعرفوا تكوينها وأعضاءها ودرسوا وفكروا فيما شرحوه واهتدوا إلى علم كثير لوظائف الأعضاء، وفي أثناء ذلك جربوا كثيراً من العقاقير لعلاج الأمراض. وعندما انقضت عصور نشاطهم السياسي والحضاري، وركدت ريحهم، كانوا قد أنشأوا علم الطب وما يتصل به من علوم الدواء، وورث عنهم اليونان وغيرهم من الأمم ذلك وزادوا عليه تجاربهم الخاصة، ثم جاء الرومان فأضافوا إلى علم المصريين واليونان تجربتهم الخاصة، وورثت العصور الوسطى ذلك كله، وتولى العرب والمسلمون قيادة علوم الطب والأدوية، وشادوا ما شادوه على أساس ما ورثوه، كما يتجلى ذلك في كتاب الشفاء لابن سينا. فما تقرؤه فيه من الطب والدواء إنما هو تراث المصريين القدماء واليونان والهنود والرومان مضافاً إليه جهد العرب والمسلمين. وهذا العلم الطبي هو الذي وصل إلى الغرب ابتداء من القرن الثاني عشر عندما بدأ علم الطب الحديث ينشأ، وهو إذاً قد قام على أساس تجارب الماضين جميعاً، ولولا التجارب الماضية هذه لما كان هناك طب حديث. وجراح اليوم هو خليفة جراح مصر القديمة الذي كان أول من حاول علاج أمراض الجسد بالمبضع والمقص معتمداً على التشريح. وحبة الدواء التي نتناولها اليوم، هي الصورة الأخيرة التي انتهت إليها وصفة مطبب مصر القديمة، الذي بدأ تجربة علاج أمراض الجسد باستخدام أعشاب ذوات خواص طبية.
وعلى هذا الأسلوب من المنطق نستطيع أن نقول في كثير جداً من علوم اليوم وفنونه. وهل تخفى على أحد العلاقة بين المعماري المصري القديم والمعماري الإغريقي والمعماري العربي ثم معماري اليوم؟ حقاً لقد اختلفت الصورة جداً وأصبح الطبيب المصري القديم شيئاً بدائياً جداً بالنسبة لطبيب اليوم، ولكن العلاقة واضحة وخط التطور واضح، فكيف يمكن القول مع هذا أن تاريخ مصر القديمة شيء لا وجود له إلا في أذهان المؤرخين الذين يبحثون عنه، وأن الدولة العباسية لا توجد إلا في ذهن المؤرخ الذي يستحضر ذكراها أو ينقب في هذه الذكرى؟
إن أي أمة مضت دون أن تخلف أثراً حضارياً تعتبر بالفعل وكأنها لم توجد إلا في أذهان من يفكرون فيها أو يبحثون عنها، مثل أمة الشيثيين، وأمة المغول التي خربت ولم تبق شيئاً، حقاً لقد أنشأت سلائل جنكيز خان وهولاكو حضارة فيما بعد في إيران والهند، ولكن الذي بنى الحضارة في هذه الدولة هو الإسلام أو المغولي الذي أسلم، وهذا الجزء الوحيد الباقي أو الذي يمكن أن نقول إنه وجد من تاريخ المغول. فماذا قدّم العرب المعاصرون من إنجازات حضارية تستحق التقدير والإعجاب وتسهم في خدمة الحضارات المعاصرة؟
العرب اليوم
ولولا أن الدولة الرمانية خلفت آثاراً من عمل الرومان في إيطاليا والبلاد التي حكمتها لما كان هناك دليل ملموس على أن هناك دولة قامت اسمها الدولة الرومانية. وهناك شعوب أضخم من شعب روما عاشت ومضت وليس هناك ما يدل عليها إلا صفحات الأخبار وهي –في رأيهم- موضع شك كبير، ومثال ذلك مغول جنكيز خان الذين خربوا ونهبوا وأحرقوا ومضوا مخلفين وراءهم الدمار، ثم قام البشر بتعمير ما خرب المغول، فزالت آثارهم بالجملة، وهم لا يوجدون إلا بالنسبة للمؤرخ الذي يتطلب أخبارهم وأخبار عصرهم. وهذا القول يدل على قصور في إدراك معنى التاريخ ومعنى العلم كله، لأن الأخبار ليست مجرد كلام مدون في الكتب، بل هي تجارب، والتجارب تبقى حية بثمراتها دون أن يكون هناك شاهد عليها بالضرورة. فلو فرضنا مثلاً أن المصريين القدماء لم يخلفوا هذه الآثار السامقة، دليلاً على وجودهم وشاهداً على ما عملوا، لبقيت ثمرات تجاربهم شواهد على وجودهم، لأن قدماء المصريين وغيرهم من شعوب الحضارة لم يعيشوا ويموتوا فحسب ، بل هم فكروا وعملوا وشادوا وابتكروا، هذا الذي شادوه وابتكروه لم يذهب سدى بانقضاء عصورهم، بل بقيت ثمراته تراثاً أفاد منه من عاصرهم وجاء بعدهم من الشعوب، ولنكتف هنا بمثل واحد يؤيد ما نقول ، فإن المصريين القدماء كانت لهم تجارب كثيرة في الطب والعلاج، فقد شرحوا الأجساد وعرفوا تكوينها وأعضاءها ودرسوا وفكروا فيما شرحوه واهتدوا إلى علم كثير لوظائف الأعضاء، وفي أثناء ذلك جربوا كثيراً من العقاقير لعلاج الأمراض. وعندما انقضت عصور نشاطهم السياسي والحضاري، وركدت ريحهم، كانوا قد أنشأوا علم الطب وما يتصل به من علوم الدواء، وورث عنهم اليونان وغيرهم من الأمم ذلك وزادوا عليه تجاربهم الخاصة، ثم جاء الرومان فأضافوا إلى علم المصريين واليونان تجربتهم الخاصة، وورثت العصور الوسطى ذلك كله، وتولى العرب والمسلمون قيادة علوم الطب والأدوية، وشادوا ما شادوه على أساس ما ورثوه، كما يتجلى ذلك في كتاب الشفاء لابن سينا. فما تقرؤه فيه من الطب والدواء إنما هو تراث المصريين القدماء واليونان والهنود والرومان مضافاً إليه جهد العرب والمسلمين. وهذا العلم الطبي هو الذي وصل إلى الغرب ابتداء من القرن الثاني عشر عندما بدأ علم الطب الحديث ينشأ، وهو إذاً قد قام على أساس تجارب الماضين جميعاً، ولولا التجارب الماضية هذه لما كان هناك طب حديث. وجراح اليوم هو خليفة جراح مصر القديمة الذي كان أول من حاول علاج أمراض الجسد بالمبضع والمقص معتمداً على التشريح. وحبة الدواء التي نتناولها اليوم، هي الصورة الأخيرة التي انتهت إليها وصفة مطبب مصر القديمة، الذي بدأ تجربة علاج أمراض الجسد باستخدام أعشاب ذوات خواص طبية.
وعلى هذا الأسلوب من المنطق نستطيع أن نقول في كثير جداً من علوم اليوم وفنونه. وهل تخفى على أحد العلاقة بين المعماري المصري القديم والمعماري الإغريقي والمعماري العربي ثم معماري اليوم؟ حقاً لقد اختلفت الصورة جداً وأصبح الطبيب المصري القديم شيئاً بدائياً جداً بالنسبة لطبيب اليوم، ولكن العلاقة واضحة وخط التطور واضح، فكيف يمكن القول مع هذا أن تاريخ مصر القديمة شيء لا وجود له إلا في أذهان المؤرخين الذين يبحثون عنه، وأن الدولة العباسية لا توجد إلا في ذهن المؤرخ الذي يستحضر ذكراها أو ينقب في هذه الذكرى؟
إن أي أمة مضت دون أن تخلف أثراً حضارياً تعتبر بالفعل وكأنها لم توجد إلا في أذهان من يفكرون فيها أو يبحثون عنها، مثل أمة الشيثيين، وأمة المغول التي خربت ولم تبق شيئاً، حقاً لقد أنشأت سلائل جنكيز خان وهولاكو حضارة فيما بعد في إيران والهند، ولكن الذي بنى الحضارة في هذه الدولة هو الإسلام أو المغولي الذي أسلم، وهذا الجزء الوحيد الباقي أو الذي يمكن أن نقول إنه وجد من تاريخ المغول. فماذا قدّم العرب المعاصرون من إنجازات حضارية تستحق التقدير والإعجاب وتسهم في خدمة الحضارات المعاصرة؟
العرب اليوم