jo24_banner
jo24_banner

فساد الطبقة الحاكمة

أ.د.أحمد يوسف التل
جو 24 : ليس المراد بفساد الطبقة الحاكمة هو ما يعنيه الكثيرون بعبارة الفساد، فهم في الغالب يجعلون في أذهانهم فكرة الانصراف إلى الملاهي والملذات كما يقولون في تعبيرنا التقليدي، ولكن الغريب أن هذا الفساد الذي يتمثل في الانصراف إلى الملاهي والملذات يكون في أدنى صوره في عصور الاضمحلال، لأن الاضمحلال يحمل في طياته خوف الطبقة الحاكمة على نفسها، وخوف حواشيها على مكانتهم. وخوف المياسير والتجار الذين يكونون ثرواتهم من القرب من رجال السلطان، وهذه المخاوف كلها لا تدع للناس راحة البال اللازمة للاستمتاع، والمسألة ليست مسألة تأمل أو تفلسف وإنما هي مسألة واقع وأمثلة. فدرجة هذا النوع من الفساد في الفترة الأخيرة من عمر الدولة الأموية - وهي التي تمتد من 105 إلى 132هـ/724 إلى 756م - غلبت روح الجد على الدولة وانصرف الخلفاء وخاصة هشام بن عبد الملك ومروان بن محمد إلى العمل الجاد لإنقاذ الدولة، في حين أن الانصراف إلى الملذات بلغ حده الأعلى في الفترة السابقة على ذلك، ابتداء من أيام يزيد بن معاوية إلى نهاية حكم يزيد بن عبد الملك سنة 105/724 وباستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز القصيرة جداً.
وهذا النوع من الفساد كان أوسع انتشاراً في العصر العباسي الأول - وهو عصر القوة - منه في العصر العباسي الثاني (وهو عصر انحلال الدولة). وخلفاء الفترة التي تبدأ من خلافة المنتصر سنة 347/861 إلى نهاية الدولة كانوا أقل فساداً لأن همومهم ومخاوفهم ومشاغلهم، لم تكن تسمح لهم براحة البال للإسراف في المتعة، فضلاً عن المتعة في ذاتها. وسلاطين دولة المماليك في عصرهم الأخير بعد بارسباي كانوا في هم دائم بأمر المحافظة على أرواحهم، وقنصوه الغوري - وهو السلطان المملوكي قبل الأخير - كان رجلاً فقيراً أقرب إلى التقشف رغم قسوته على خصومه وقلة تعففه عن المال الحرام.
وإنما يراد بالفساد في عصور التصدع وقوع الفتن والحزازات والحروب بين أفراد الطبقة الحاكمة، وحلول التحاسد والتباغض والخوف محل التعاون والتآخي والأمن، وانصراف الهمم تبعاً لذلك عن خدمة الجماعة أو السعي إلى مجدها إلى الدفاع عن أنفسهم، مما ينشأ عنه ضعف الولاء نحو الجماعة وانعدام الشعور بالمسؤولية حيالها، ومن ثم يكون السلب والنهب والقتل مما تتزعزع معه أركان النظام القائم.
وهذه الحالة لا تؤدي إلا إلى مخرج من مخرجين: إما أن يصير الأمر إلى الاستبداد العسكري أو إلى الفوضى. والمراد بالأول أن يظهر قائد عسكري ويفرض سلطانه، ويقضي على الحريات تماماً، ويحكم لمصلحة نفسه وجماعته وخليفة آخر ثم آخر وهكذا. وتدخل الدولة أثناء ذلك في عصر التفكك. وهذا هو ما حدث للدولة الرومانية بعد عصر أغسطس، فقد تعاقب العسكريون على عرش الإمبراطورية وكان فيهم أباطرة ممتازون حاولوا في صدق إنقاذ الدولة، وكانوا أبعد ما يكونون عن الفساد، ولكن العلة كانت الاستبداد والحكم بالعنف والقهر، مما قتل في الشعب الروماني النـزوع إلى العمل والطموح إلى ما هو أحسن.
والاحتمال الثاني هو الفوضى، أي انقسام البلاد إلى أقسام صغيرة يحكم كلاً منها مستبد عسكري أو غير عسكري، مقيد بالعسكر وتقع الحروب بين هؤلاء ويضيع أمر الناس وتتبدد ثرواتهم ويهجرون الأرض أو البلاد، وشيئاً فشيئاً تضيع الجماعة كلها جملة، وهذا هو الذي حدث في الفترة الأخيرة من تاريخ اليونان، وهو الذي حدث أيضاً في الأندلس بعد سقوط خلافة قرطبة سنة 423/1031، وفي العادة تفضل الجماعات الاستبداد العسكري على الفوضى، وهذا هو ما حدث في الدولة الرومانية بعد أغسطس.
وكلا الحالين: الاستبداد العسكري والفوضى، يؤديان إلى النتيجة نفسها: التفكك.
والتفكك Disintegration وهو الدور الأخير الذي تمر به حضارة ما أو جماعة ما. إننا نريد بأي حضارة أن تذكرها الجماعة التي أنشأت هذه الحضارة في الوقت نفسه، فلا جماعة من دون حضارة. وفي عصور التدهور التي نقسمها هنا إلى مرحلتين: التصدع والانحلال ينصب الكلام على التطور التاريخي السياسي، لأن الحضارة في ذاتها لا تتصدع أو تنحل، وإنما هي تنكمش أو يبطؤ سيرها أو يتوقف مسيرها نظراً لسوء الأحوال السياسية واضطراب نظام الحكم.
والتفكك – مثله في ذلك مثل المراحل الأربع – في حياة حضارة ما وهي: النشوء Growth والتصدع Break down والتفكك Disintegration، هو دور حتمي في تاريخ الحضارات كلها، أي أنه ليس ظاهرة تنشأ عن مرض سياسي أو اجتماعي بل هو طور لا مفر منه لكل حضارة، وكل ما تستطيع الأمة عمله هو أن تبطئ سير عمليتي التصدع والتفكك، ومن ثم تطول عصورها ولكنهما لا تتلاشيان. وقد بذل أباطرة الرومان جهوداً ضخمة حقاً في سبيل المحافظة على وحدة دولتهم والحفاظ على مستوى قوتها، وكل الذي استطاعوا هو إطالة الأجل.
فبينما كانت الدولة على وشك الانهيار أواخر القرن الثالث الميلادي، تمكن رجال من أمثال تيودوسيوس الأول وقسطنطين الأول من رأب الصدع أو تضييق مداه على الأقل، فلم تسقط الدولة الرومانية إلا بعد قسطنطين بقرن ونصف القرن على وجه التقريب، أي سنة 476 على أيدي القوط الشرقيين وقائدهم أدواكر.
والانحلال يكون على نوعين، وهما – في الغالب – يسيران جنباً إلى جنب: انحلال رأسي Vertical، أي انحلال وحدة الدولة وانقسامها إلى وحدات سياسية مستقل بعضها عن بعض ومتحاربة فيما بينها، وهذا التحارب هو الذي يؤدي بالدولة إلى نهايتها. وانحلال أفقي Horizontal وهو انقسام سكانها أو طبقات سكانها بعضها على بعض وقيام بعضهم على بعض، وهو ما يسمى بالانحلال الداخلي Schism فتتناحر الطبقات أو الوحدات السكانية داخل الأمة ويسرع ذلك بانهيارها.
فأما الانقسام الرأسي Vertical فأمره معروف، وكلنا نعرف أن أي دولة من الدول يتسع مداها حتى تصل إلى منتهاه لا بد من تفككها بعد ذلك، وانقسام الدولة الواحدة إلى دويلات تعتبر دولاً، وتقع الحروب بينها. وظاهرة الانقسام الرأسي في ذاتها طبيعية، وقد تؤدي إلى قيام وحدات سياسية وحضارات جديدة تحل محل الوحدة الأصلية الكبرى أو قد لا تؤدي، ولكن تلك الوحدة السياسية والحضارية الأصلية تتلاشى في كلتا الحالتين.
ولكن الذي يستحق منا وقفة، ولو قصيرة، هو الانقسام الأفقي أي انقسام قطاعات الأمة، أو قطاعات كبيرة من الأمة بعضها على بعض على أسس عقيدية، كما حدث في العالم المسيحي الغربي من انقسامه إلى كنيسة شرقية وكنيسة غربية. وكما حدث للكنيسة الغربية في ذاتها من انقسامات إلى كاثوليكية وبروتستانتية، وكما حدث في العراق وبغداد وفي كل العالم الشرقي الإسلامي كله من الانقسام إلى سنة وشيعة وخوارج وطوائف أخرى، وقيام الحروب بينها، مما جعل القرن الرابع الهجري من أسوأ عصور تاريخ الشرق الإسلامي من الناحية السياسية والاجتماعية. ومن المعروف أن فوضى القرن الرابع هذه كان من الممكن أن تودي بالشرق الإسلامي جملة، كما أودت فوضى القرن الخامس الهجري وما بعده بالأندلس لولا أن الله تدارك أمر الشرق الإسلامي بالسلاجقة، وهم قوة عسكرية فأوقفوا تيار الفوضى، ووضعوا قوتهم في كفة السنة، فاستقرت الأمور على وضع ما. حقاً لقد ضعف السلاجقة بعد ذلك وتفككت الدولة العباسية من جديد في أيام آخر سلاطينهم، ولكن التفكك في هذه الحالة كان رأسياً أي انقساماً إلى دويلات، لا تصدعاً اجتماعياً وفكرياً داخل الدولة نفسها.
والذين يتصورون أن قلب الدولة الإسلامية - العراق والشام ومصر - لم يكن من الممكن أن ينحل وينهار واهمون ولا شك، فإن الانقسام الخطير رأسياً وأفقياً الذي أصاب هذا القلب في القرن الرابع، ومحاولة البويهيين من ناحية، ثم الفاطميين من ناحية أخرى، توسيع هوة الخلاف المذهبي أو الطائفي أو الاجتماعي داخل كيان الدولة، كان من الممكن جدا أن يستمر هذا كله لولا السلاجقة، كان من الممكن أن يستمر التناحر في قلب الدولة حتى تصل الحال في قلب الدولة إلى ما وصلت إليه الحال في الأندلس، خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي من انحلال ذريع، وكان هذا الانحلال تمهيداً للنجاح الكامل للضرب أو الضربات الصليبية كما حدث في الأندلس، من تزايد قوة الزحف الصليبي النصراني على بلاد المسلمين على صورة انتهت بضياع الأندلس جملة. حقا لقد تمكن المرابطون ثم الموحدون والمرينيون من إيقاف هذا الزحف لفترة ما، ولكن أمة الأندلس نفسها كانت قد انحلت نهائياً كما انحلت أمة الرومان قبل أن تأتيها الضربة القاضية أو ضربة الرحمة Coup de grace على أيدي القوط الشرقيين.
ونعود إلى الانحلال الداخلي فنقول، إن هذا الانحلال أو الضعف يصيب الصفوة أو الأقلية القائدة The learning minority، لأنها هي التي إذا انشقت على نفسها ضاعت القيادة وأصبحت بلاء على بعضها بعضا وعلى الأمة كلها. فحروب ماريوس وسولا ثم حرب قيصر وبومبي ثم حروب أوكتافيوس مع ماركوس أنطونيوس هذه هي التي قضت على النظام الجمهوري في تاريخ روما، فقد انقسمت الفئة القائدة ووقعت الفوضى، وكانت النتيجة نهاية الجمهورية وعصرها، وهو عصر الاندفاع والشباب والابتكار في تاريخ روما، وبدأ عصر الإمبراطورية على يد أوكتافيوس والابتكار في تاريخ روما، وبدأ عصر الإمبراطورية على يد أوكتافيوس الذي أصبح أغسطس أول الأباطرة: تصدع بناء الدولة وبدأ عصر التفكك والانحلال.
وفي تاريخنا العربي الإسلامي نجد ذلك واضحاً، فحروب علي ومعاوية كانت انشقاقاً في الصفوة أو في صفوف الفئة القائدة، وكانت النتيجة تحول الإمامة أو الخلافة الشورية إلى الملكية الأموية. ثم حدث انشقاق كان في الصفوة في ثورة العباسيين على الأمويين، وفي تاريخ العباسيين حدثت انشقاقات كثيرة وجسيمة في القيادة العباسية نفسها: الصراع على وراثة العرش أيام المهدي، ثم الصراع على السلطة أيام الهادي، مما انتهى بمقتله ثم الخوف على السلطة أيام الرشيد مما انتهى بسقوط المنافسين للخليفة على السلطان وهم البرامكة، ثم الصراع على الخلافة مرة أخرى بين الأمين والمأمون. وفي هذا الصراع انتهى الحلف غير المكتوب بين بني العباس وهم عرب ومن كان يؤيدهم من الفرس. والخليفة المأمون نفسه - الذي كان يؤيدهم من الفرس. والخليفة المأمون نفسه - الذي كان يعتز بالتأييد الخراساني- اضطر إلى أن يحاصر بغداد عاصمة الخلافة العربية سنتين قبل أن يستطيع دخولها، وعندما دخلها لم يجد من أهلها أي ترحيب، بل وجد الهجوم والعداء، فغادرها ولم يعد يقيم بها إلا لماما كما كان أبوه الرشيد يفعل. ولكن بينما كان الرشيد يخاف العيش في بغداد حذرا من البرامكة الفرس وأنصارهم المسيطرين على القصر والسلطة فيها، كان المأمون يخشى المقام في بغداد خوفاً من جمهورها العربي.
وهكذا كان التصدع في القيادة ظاهرة دائمة في نظم الحكم الإسلامية، مما جعل الأمة تفقد ثقتها في قادتها السياسيين وتضعها في أيدي الدينيين، وهم الفقهاء وأهل العلم ثم انضاف إليهم رجال الطرق الصوفية فيما بعد، وتستطيع أن تطبق هذه الظاهرة على ما تريد من المسلمين، فستجد الأمر صحيحاً. (العرب اليوم)

a.altal@alarabalyawm.net
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير