الجامعة الأردنية.. دكتوراة تائهة
عدنان برية
جو 24 :
أحيا إعلان الجامعة الأردنية، إعادة افتتاح برنامج دكتوراة العلوم السياسية، آمال مئات المجتهدين الراغبين بنيل الدرجة، وهو جهد مقدّر للقائمين على الأمر؛ بيد أن "الشوائب" عكّرت المشهد، إذ بدأت بهمس حيال "تدخلات" في القبول، وتطورت إلى لغط حول "المعايير الأكاديمية للمفاضلة" بين المتقدمين وما إذا كانت موجودة أصلاً، لتثير - أخيراً - شكوكاً حول "مصداقية أم الجامعات".
"التدخلات" المفترضة، وفق المستويين الأكاديمي والإداري في الجامعة الأردنية، جاءت من "جهات رسمية" متعددة، ليس أهمها "مؤسسة رئاسة الوزراء"، وسعت - ولا زالت - للعبث في قائمة المفاضلة بين المتقدمين للبرنامج، الذين بلغ عددهم 136 متقدماً، الأمر الذي يثير جدلاً حول ما إذا كانت الجامعة الأعرق في البلاد لا تزال عصية على "روافع الفساد والإفساد"، أم أنها باتت جزءاً من سياقها.
الافتتاح المتأخر لباب التقدم إلى برنامج دكتوراة العلوم السياسية، الذي جاء في إعلان منفصل ولاحق لفتح باب التقدم لمختلف برامج الدكتوراة في الجامعة الأردنية، زاد حدة اللغط الدائر، وأطلق الشكوك والتكهنات حول السبب الحقيقي لإعادة افتتاحه، وما إذا كانت التدخلات المفترضة سببا لإعادة افتتاحه؟.
القائمون على البرنامج سعوا إلى تبديدهم شكوك ومخاوف المتقدمين، وحين باء مسعاهم بالفشل، تداعوا إلى "اجتماع" لبحث الأمر، خاصة في ظل ما تسرب بشأن "التدخلات"، وبشأن "قائمة المقبولين" التي جُهزت على عجل، ولم تُعلن بعد.
عملياً، الأمر لا يستدعي الارتباك، إذ يكفي تحديد معايير أكاديمية موضوعية وواضحة ومعلنة للمفاضلة بين المتقدمين، والالتزام بها، وإعلان نتائج تطبيقها على المتقدمين كافة، وهو ما ينقذ سمعة الجامعة الأم، ويعيد الأمل بدور طليعي للمؤسسات الأكاديمية في ترسيخ قيم العدالة والنزاهة والشفافية.
ولكن، هل يوجد "معايير أكاديمية" موضوعية للمفاضلة والقبول في برنامج العلوم السياسية؟؛ المثير والمحزن - في آن - هو الإجابة، التي جاءت على لسان أحد مسؤولي البرنامج، إذ رأى - في حديثه إلى كاتب المقال - بضرورة "تجاوز فكرة المعايير الأكاديمية للقبول على الفصل الحالي، وإرجاء الأمر لفصول دراسية مقبلة".
تعليمات الجامعة الأردنية تحدد معياراً عاماً وعاجزاً للمفاضلة بين المتقدمين لبرامج الدكتوراة عموماً، يتمثل في معدل التحصيل بدرجتي البكالوريوس والماجستير ونشر بحث علمي في إحدى المجلات الأكاديمية، وتترك للكليات تحديد معايير أكاديمية للقبول في تخصصاتها، وهو ما لا يتوفر في برنامج دكتوراة العلوم السياسية باعتراف القائمين على كلية الأمير حسين بن عبد الله الثاني للدراسات الدولية.
غياب المعايير الأكاديمية ينطوي على إشكاليات مركبة، ويستدعي التوضيح:
أولاً: معلوم أن درجة الدكتوراة هي مرتبة متقدمة في تخصص بعينه، وبالتالي كلما اقترب المتقدم في تخصصه بمرحلتي البكالوريوس والماجستير من تخصص الدكتوراة كلما كانت مدخلات البرنامج أكثر كفاءة، والمخرجات ستكون أرفع نوعية، وهو ا تشترطه مختلف الجامعات لتعيين الأساتذة لديها؛ ولكن، هذا لا ينطبق على برنامج دكتوراة العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، إذ لا يوجد لهذا المعيار أية وزن في عملية المفاضلة بين المتقدمين، بل يصار إلى فرض 6 - 9 ساعات استدراكية (وربما أقل) على المقبولين من غير التخصص، ما يعني اختزال درجتي البكالوريوس والماجستير، اللتان يبلغ عدد ساعاتهما المعتمدة نحو 175 ساعة دراسية، في مادتين أو ثلاثة، وربما واحدة.
ثانياً: تُقيِم الجامعات العريقة أهمية كبيرة لمجالات الاهتمام البحثي لدى المؤسسة والأساتذة والطلبة على حد سواء، إذ ثمة أجندة بحثية يصار إلى القبول في برامج الدكتوراة وفقها، ويشكّل هذا رافعة للجامعة والأستاذ والطالب معاً، لكن للأسف أسقطت الجامعة الأردنية والقائمون على برنامج العلوم السياسية هذا المعيار تماماً.
ثالثاً: تُشكّل القدرات البحثية لدى طالب الدكتوارة أهمية كبرى في تحديد نوعية الخريجين من البرنامج، ورغم ذلك تجاهلت الجامعة الأردنية والجهات المعنية بالأمر هذا المعيار في آلية المفاضلة بين المتقدمين، واكتفت بدرجة التحصيل في المواد الدراسية بمرحلة الماجستير التي لا يدخل فيها تقييم الأطروحة البحثية/ الرسالة (تحتسب ناجح أو راسب)، رغم إمكانية أن تتخذ كأحد معايير القبول لما تظهره من إمكانيات وأصالة بحثية واجتهاد لدى الباحث.
رابعاً: تُعتبر "الرسائل المكتومة"، من أساتذة مرحلة الماجستير، معياراً لقبول المتقدم إلى الدكتوراة، إذ تتضمن تقييماً أكاديمياً موضوعياً وسرياً للطالب، وتشكل أساساً مهماً لنوعية مدخلات البرنامج، وهو أيضا مما أسقطه برنامج الجامعة الأردنية.
خامساً: غالباً ما تشكّل المقابلات أداة ومعياراً فعّالاً للمفاضلة بين المتقدمين إلى الدكتوراة، ورغم ما تشكله من سيف ذو حدين، فهي إن كانت موضوعية ونزيهة وبعيدة عن التدخلات ستكون سبباً لاختيار الأكثر كفاءة، وإن كانت غير ذلك ستكون وجهاً من أوجه الفساد والإفساد، إلا أنها تغيب - أيضاً - عن قبولات برنامج دكتوراة العلوم السياسية.
ما سبق من إشكالات، وغيرها مما لا يتسع المقال لذكرها، يمكن أن تكون حلاً حال تحويلها إلى معايير وتطبيقها بصرامة، خاصة في ظل "عدد مقاعد المقبولين"، الذي يثير سخرية مؤلمة في شق "التوزيع الأعمى"، وهذا يستدعي - أيضاً - التوضيح:
أولا: حددت الجامعة الأردنية عدد مقاعد برنامج دكتوراة العلوم السياسية بـ 18 إلى 20 مقعداً، موزعة "مناصفة" بين الطلبة "الأردنيين" و"غير الأردنيين"، بغض النظر عن نتائجهم وفق "المعيار العاجز" (تحصيل البكالوريوس والماجستير والبحث المنشور)، ما يعني أن المقبولين لن يكونوا سواسية أمام هذا المعيار.
ثانياً: تتوزع مقاعد الأردنيين (9 أو 10 مقاعد) وفق معادلة غريبة عجيبة، وهي: 50% لخريجي الجامعة الأردنية، 30% لخريجي الجامعات الأردنية الأخرى، 20% لخريجي الجامعات غير الأردنية، ما يشكل نموذجاً لـ "محاصصة" أو "كوتة" من نوع جديد، وينطوي على "تحوصل" و"تجاهل للتنوع والتنويع" رغم ما يتضمنه من فائدة للبرنامج.
ثالثاً: يمنح "التوزيع الأعمى" أفضلية وامتيازاً للطلبة غير الأردنيين، فكل من تقدّم منهم مقبول بالضرورة، وغالباً لن يتجاوز عدد المتقدمين منهم عدد المقاعد المتاحة لهم (آخر إحصائية تحصّل عليها كاتب المقال تكشف أن عدد المتقدمين من غير الأردنيين 3 فقط).
"المجتهدون الضعفاء"، وهم متقدمون إلى البرنامج بلا روافع غير اجتهادهم، ممن استطاع كاتب المقال التواصل معهم، عكسوا ما يرقى إلى اليقين بأن المفاضلة بين المقبولين "إجراء شكلي"، وأن العملية لن تجر في سياق شفاف وموضوعي، وهو يقين بوجه قبيح، ويندى له الجبين، خاصة إذا جاء من فئة شابة يُعوّل عليها كثيراً في مستقبل وطننا الأغر، ويؤثث أيضاً لوعي مشوّه حيال "الحق" وطريقة نيله.
تجاهل ما يجري يعني بالضرورة ظلماً وانتهاكاً لـ "حق المتقدمين الضعفاء"، ويستدعي وقفة جادة ومسؤولة، وهي ممكنة حال توفرت الإرادة، فتحديد "معايير أكاديمية" لا يحتاج أكثر من اجتماع واحد لكلية الأمير حسين والدراسات العليا والبحث العلمي، وتطبيقها بصرامة لا يستلزم أبعد من إعلان بنتائج تطبيقها على المتقدمين كافة وتحصيل كل منهم من النقاط، وأمام أعين الجميع.
قد يشكل "التوزيع الأعمى" و"المعايير الغائبة"، إلى جانب "التدخلات والواسطات" مجتمعة اختباراً مبكراً لإدارة الجامعة الأردنية، التي تسلمت مواقع المسؤولية حديثاً، وقد يكون برنامج دكتوراة العلوم السياسية - بشكل خاص - ساحة لمواجهة مفتوحة مع "خفافيش الزوايا المظلمة"، أو يترك كله ليكون برنامجاً لـ "دكتوراة تائهة".