"الإفلاس الرسمي" في أعطيات السلاطين
ظلت أعطيات السلاطين، في الثقافة والاجتماع العربيين، محط انتقاد، إذ تؤسس لـ "الزبائنية السياسية"، التي هي – في أحد أوجهها – تعبير عن عجز في استقطاب "موضوعي" و"واعي" للولاءات، سواء لإخفاق الرسمي في تحقيق غايات العامة، أو توطئة تأسيسية لـ "آتٍ" يناقض الغالب من إرادة العامة.
لا بأس، للحديث في شأن السلاطين آداب، سألتزمها صاغراً، لاعتبارات عدة، ليس من بينها "الخشية من قدر محتوم"؛ ففي عرفهم ثمة قدسية، تستدعي - على العامة - الانحناء لها (ولا أقول السجود خنوعا واستسلاما)، ولا أظن أن النجاة من الواقع تتطلب بطولة واستشهادا، بقدر ما فيها من ظمأ لـ "رشد" و"عقلنة" لهذا الواقع.
حادثتان، في يوم واحد، استدعتا هذا المقال، أولهما إعلان الحكومة موافقتها على مكرمة جلالة الملك لأخوتنا في محافظة معان، التي تعد شاهدا حيا على الإخفاق الرسمي، وتعبيرا عن فشل السياسات التنموية الحكومية؛ والثانية، ما كشفه ديوان المحاسبة من توزيع سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة لنحو 915 ألف دينار، خلال 10 أشهر، كأعطيات؛ وفي الحادثتين ما يستدعي التفصيل، فلكل منهما "محتواه القيمي" المغاير للآخر، رغم أنه يساق في باب الأعطيات.
في الحادثة الأولى، جاءت الأعطية من "سلطة جائرة" (الحكومة)، لغاية محددة، وهي: تفكيك "القناعة الشعبية" بـ "المظلومية" الواقعة، وتجريد القوى الاجتماعية المؤثرة، في المحافظة، من غطائها الشعبي المحلي، للإطاحة بها، وفي الوقت نفسه البدء بإعادة صياغة وتشكيل الوعي، بما فسد من قيم، وصولا إلى إخضاع المنطقة، التي ظلت على الدوام إقليما رافضا لسياسات التفقير والتجويع، ولم تقبل "الاستسلام" بوصفها "ضحية".
أما الحادثة الثانية، فلا أظن أن خلافا يدور حول اعتبارها "رشوة" تستهدف فئات بعينها، ولغايات محددة، كالصمت عن فساد أو فعل "غير شرعي" (وفق المعنى القانوني وليس الديني)، وبالتالي، هي تكريس لثقافة مستشرية، مرجعيتها "امتلاك الرسمي لأدوات تكفل اجتيازه الحواجز"، وقوامها "إخراس المناوئ" أو "ابتياع الصمت"، ممن تطيب لنفسه الدنية.
ولكن، في الحالتين تخفق السلطات في انتزاع فتيل المأزق، فهي لم تقدم – في الأولى - حلولا مستدامة لأهالي معان، تحول دون غضبهم ورفضهم للواقع، بل على العكس تماما، أثار بأعطيته احتجاجا من نوع مختلف (رفض العشائر توزيع واجهاتها)؛ وفي الثانية أطلق العنان لشهية المناوئين، الذين سيزدادون عددا وعدة، تزامنا مع تماديه في اختراق الحواجز، وفق علاقة طردية تماما.
النهج الرسمي، باعتماده – قيميا - على الأعطيات لـ "تورية الفشل"، يقدم دليلا على إفلاس الرسميين واجتياحهم للمال العام، سواء لكسب ولاءات "مزيفة"، أو لإرجاء "انفجار" حتمي، وهو - بما لديه - لا "يَسمَن" (هو) ولا "يُغني" (الآخر)، لتظل الحقيقة ماثلة بانتظار معالجات حقيقية، إذ لا فارق بين أعطيات السلاطين والمعالجات الأمنية، فلا الأولى عالجت جذور الغضب، ولا الثانية قيدت أيدي الغاضبين، فالاستعداد للغد يتطلب كبح جماح الانهيار، بمنظومة قيمية ليس من ضمنها "رشوة العامة"، إذ لا طائل لأي سلطة في الدنيا على شراء ذمم شعب بأكمله.