بعد ربع قرن.. الطائرة لم تقلع
فهد الخيطان
جو 24 : تصادف هذه الأيام ذكرى "هبة نيسان"؛ يوم اندلعت احتجاجات عنيفة ضد رفع أسعار المحروقات في مدينة معان، سرعان ما امتدت إلى الطفيلة والكرك والسلط، وهناك اكتست مطالب الجماهير طابعا سياسيا عاما، أثمر ما بات يعرف بمرحلة التحول الديمقراطي؛ إذ شهدت البلاد عودة الحياة النيابية، عبر انتخابات نزيهة العام 1989، وإلغاء الأحكام العرفية، وتشريع العمل الحزبي، وإطلاق الحريات الصحفية والعامة.
ثمة روايات عديدة حول ملابسات ما جرى في ذلك التاريخ. لكن الرواية التي تلفت الأنظار أكثر من غيرها، ويرددها مسؤولون كبار في الدولة، تقول إن مدير المخابرات العامة في ذلك الوقت طارق علاء الدين، هو من كان يقف خلف حركة احتجاج سائقي الشاحنات في معان، نكاية برئيس الوزراء في حينه زيد الرفاعي، الذي دفع ثمن ما جرى فور عودة الملك الراحل الحسين من زيارة للخارج.
لا يمكن الجزم بدقة هذه الرواية، رغم أن بعض المصادر الرفيعة تنسبها إلى الملك الراحل شخصيا. ومن المستبعد في العرف السياسي الأردني أن يبادر أحد الرجلين؛ علاء الدين أو الرفاعي، إلى تأكيد الرواية أو نفيها.
لكن أيا كانت المعطيات، فإن ما حصل من احتجاجات كان تعبيرا وطنيا صادقا عن أزمة سياسية واقتصادية في البلاد، لم يكن تجاوزها ممكنا بدون تغيير جوهري، يؤسس لعملية تحول ديمقراطي حقيقي وجذري.
كانت الانطلاقة الأولى لهذه العملية معقولة ومقبولة إلى درجة كبيرة؛ مجلس النواب كان ممثلا حقيقيا للقوى السياسية والاجتماعية في البلاد، والحكومات أدارت المرحلة بمسؤولية كبيرة، واستجابت لاستحقاقات التحول المطلوبة. كما أن النخب السياسية التي برزت إلى السطح بعد "الهبة"، اتسمت بقدر عال من الاحترام والمصداقية عند عموم الناس. وظهر صف عريض من رجالات الدولة المهيوبين، الذين يتمتعون بالنزاهة وقوة الشخصية.
كنا في تلك السنوات على وشك الإقلاع والوصول إلى مصاف الدول الديمقراطية. لكن التطورات التي شهدتها عملية السلام، وتوقيع معاهدتي أوسلو ووادي عربة، ومن ثم إقرار قانون الصوت الواحد، أعادتنا من جديد إلى المدرج. ومنذ ذلك التاريخ ونحن نحاول الإقلاع بدون جدوى.
سنوات النصف الثاني من عقد التسعينيات كانت سنوات الموت البطيء لكل مظاهر الحياة الديمقراطية؛ الأحزاب تفسخت، والحريات الصحفية تراجعت، وتدنت جودة النيابة، وعززت مراكز الفساد مكانتها في الدولة.
لم يكن هذا أسوأ ما واجهنا. ففي السنوات اللاحقة، انهارت مكانة الدولة، ولم يبق من مظاهر قوتها غير المظهر الأمني. وأمسك رجال الأعمال بمفاصل القرار السياسي والاقتصادي؛ فكانت سنوات الفساد بامتياز.
صارت "الهبة" مجرد ذكرى، تلاشت آثارها مع مرور السنين. فبعد ربع قرن، ها نحن بلا حياة حزبية حقيقية، وبلا برلمان يمثل القوى السياسية، وإزاء حكومات تشكَّل بنفس الآلية القديمة، وإعلام يكافح من أجل هامش للحريات. وفي الميدان الاقتصادي أزمة لا تقل خطورة عن تلك التي تسببت في تفجير احتجاجات نيسان، لا بل إن الاحتجاجات التي شهدناها العام الماضي أوسع وأعنف مما وقع العام 1989. والمفارقة المأساوية أن مديونية البلاد اليوم أعلى مما كانت عليه يوم اكتشفنا أن خزائن البنك المركزي خاوية من العملات الأجنبية! وعلى مستوى التحالفات العربية الإقليمية، وجدنا في العام 1989 من يقف إلى جانبنا، فيما اليوم "تنشف حلوقنا" قبل أن نحصل على دعم الأشقاء، وتُفرض شروط قاسية علينا.
وبعد سنوات من ذلك التاريخ، احتفلنا بالتخرج من برنامج صندوق النقد الدولي. واليوم، نعود لتلقي نفس الدروس التي تعلمناها من قبل، لكن بشروط أصعب وأثقل.
"تسونامي" الثورات الذي اجتاح المنطقة، على ما فيه من أهوال وتحديات، لم يحرك طائرة الإصلاح في الأردن؛ فهي ما تزال تحوم على المدرج بانتظار شارة الإقلاع.
(الغد)
ثمة روايات عديدة حول ملابسات ما جرى في ذلك التاريخ. لكن الرواية التي تلفت الأنظار أكثر من غيرها، ويرددها مسؤولون كبار في الدولة، تقول إن مدير المخابرات العامة في ذلك الوقت طارق علاء الدين، هو من كان يقف خلف حركة احتجاج سائقي الشاحنات في معان، نكاية برئيس الوزراء في حينه زيد الرفاعي، الذي دفع ثمن ما جرى فور عودة الملك الراحل الحسين من زيارة للخارج.
لا يمكن الجزم بدقة هذه الرواية، رغم أن بعض المصادر الرفيعة تنسبها إلى الملك الراحل شخصيا. ومن المستبعد في العرف السياسي الأردني أن يبادر أحد الرجلين؛ علاء الدين أو الرفاعي، إلى تأكيد الرواية أو نفيها.
لكن أيا كانت المعطيات، فإن ما حصل من احتجاجات كان تعبيرا وطنيا صادقا عن أزمة سياسية واقتصادية في البلاد، لم يكن تجاوزها ممكنا بدون تغيير جوهري، يؤسس لعملية تحول ديمقراطي حقيقي وجذري.
كانت الانطلاقة الأولى لهذه العملية معقولة ومقبولة إلى درجة كبيرة؛ مجلس النواب كان ممثلا حقيقيا للقوى السياسية والاجتماعية في البلاد، والحكومات أدارت المرحلة بمسؤولية كبيرة، واستجابت لاستحقاقات التحول المطلوبة. كما أن النخب السياسية التي برزت إلى السطح بعد "الهبة"، اتسمت بقدر عال من الاحترام والمصداقية عند عموم الناس. وظهر صف عريض من رجالات الدولة المهيوبين، الذين يتمتعون بالنزاهة وقوة الشخصية.
كنا في تلك السنوات على وشك الإقلاع والوصول إلى مصاف الدول الديمقراطية. لكن التطورات التي شهدتها عملية السلام، وتوقيع معاهدتي أوسلو ووادي عربة، ومن ثم إقرار قانون الصوت الواحد، أعادتنا من جديد إلى المدرج. ومنذ ذلك التاريخ ونحن نحاول الإقلاع بدون جدوى.
سنوات النصف الثاني من عقد التسعينيات كانت سنوات الموت البطيء لكل مظاهر الحياة الديمقراطية؛ الأحزاب تفسخت، والحريات الصحفية تراجعت، وتدنت جودة النيابة، وعززت مراكز الفساد مكانتها في الدولة.
لم يكن هذا أسوأ ما واجهنا. ففي السنوات اللاحقة، انهارت مكانة الدولة، ولم يبق من مظاهر قوتها غير المظهر الأمني. وأمسك رجال الأعمال بمفاصل القرار السياسي والاقتصادي؛ فكانت سنوات الفساد بامتياز.
صارت "الهبة" مجرد ذكرى، تلاشت آثارها مع مرور السنين. فبعد ربع قرن، ها نحن بلا حياة حزبية حقيقية، وبلا برلمان يمثل القوى السياسية، وإزاء حكومات تشكَّل بنفس الآلية القديمة، وإعلام يكافح من أجل هامش للحريات. وفي الميدان الاقتصادي أزمة لا تقل خطورة عن تلك التي تسببت في تفجير احتجاجات نيسان، لا بل إن الاحتجاجات التي شهدناها العام الماضي أوسع وأعنف مما وقع العام 1989. والمفارقة المأساوية أن مديونية البلاد اليوم أعلى مما كانت عليه يوم اكتشفنا أن خزائن البنك المركزي خاوية من العملات الأجنبية! وعلى مستوى التحالفات العربية الإقليمية، وجدنا في العام 1989 من يقف إلى جانبنا، فيما اليوم "تنشف حلوقنا" قبل أن نحصل على دعم الأشقاء، وتُفرض شروط قاسية علينا.
وبعد سنوات من ذلك التاريخ، احتفلنا بالتخرج من برنامج صندوق النقد الدولي. واليوم، نعود لتلقي نفس الدروس التي تعلمناها من قبل، لكن بشروط أصعب وأثقل.
"تسونامي" الثورات الذي اجتاح المنطقة، على ما فيه من أهوال وتحديات، لم يحرك طائرة الإصلاح في الأردن؛ فهي ما تزال تحوم على المدرج بانتظار شارة الإقلاع.
(الغد)