عجوز
كامل النصيرات
جو 24 :
كلّما رأيتُ عجوزاً طاعناً في الشيب و الاستسلام للأيّام أدركتُ أن الدموع لها قيمة كبيرة..!
أفكّر في مولود عربي ..كان قبل ثمانين عاماً قطعة لحم ؛ خرج للبلاد العربية يحلم ككل الناس باللعب الطفولي النظيف و يحلم في وطن عربي واحد ..ويحلم بالكرامة و الحريّة..! بل يحلم في وطن لا يتمزّق أمام ناظريه كلّ لحظة ..!
عجوز لو أعطيته الآن شقفة خبز ناشفة سيرضى..ترك اللعب النظيف ..ترك الوحدة..وترك معهما الكرامة و الحريّة..وصارت كلّ أحلامه ثلاثة أشياء فقط : خبز يومي..ودواء لا ينقطع ..وأن يضمن قبراً يوصله للجنة..!
عجوز..يقف الآن على إشاراتنا الضوئية يبيع العلكة ومعه يبيع المتبقّي من عمره وآثار دموعه ما زالت عالقةً على مجرى الحدقتين..! عجوز يقف الآن بطابور إحدى المستشفيات معه كيس بلاستيكي يقبض عليه بحرارة خوفاً من أن تسقط أدويته في لحظة الزحمة ..يقتله الانتظار أكثر مما يقتله المرض..! عجوز ؛ يجلس الآن على أي قارعة ..يستريح من خطوتين أتعبتاه حين خرج ليتفقد كشرة الشوارع..!
هذا العمر عجوز ..هذه الأوطان تجعلك عجوزاً وأنت ترضع حليبك الأول..أوطان تعطيك البياض منذ اللحظة الأولى ..لون الحليب أبيض..شيب رأسك أبيض..جلّ أيامك في المستشفيات بالأردية البيضاء..وكفنك أبيض..لذا استسلمت لها لأن راية الاستسلام بيضاء أيضاً..
عجوز ..وُلِد ولم يعش بعد..لأن هذه الأوطان تأخذ عمرك وتضعه في الأمانات بلا وصل استلام..!