jo24_banner
jo24_banner

التغيرات في العمل الفدائي الفلسطيني خلال 58 عاما

أحمد ذيبان
جو 24 :
 ثمة تجارب عديدة في العالم مارست العمل الفدائي "الكفاح المسلح" ، بهدف التحرر والاستقلال من الاستعمار الغربي ، لكنني أعني في هذا المقال العمل الفدائي الفلسطيني حصرا ، في ضوء "المحرقة" وحرب الابادة التي ترتكبها دولة الاحتلال الصهيوني ضد شعب قطاع غزة في وحشية قل نظيرها باستخدام أكثر الأسلحة المتقدمة فتكا ، مقابل مقاومة فلسطينية تستخدم أسلحة بسيطة .
شكل انطلاق حركة فتح في يناير/ كانون الثاني عام 1965، ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة، لتعيد الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني وشخصيته الوطنية ، وانطلق العمل الفدائي الفلسطيني رسميا ، في ليلة 31 كانون الأول/ ديسمبر 1964، بأول عملية فدائية وصفت ب"الرمزية " في الأراضي المحتلة منذ 1948 ونفذها جناح حركة "فتح" العسكري "قوات العاصفة"، في ممر مائي يحمل اسم "نفق عيلبون"، تم فيها تفجير شبكة مياه إسرائيلية وجرح جنديين إسرائيليين، واستشهد فيها أحد منفذي العملية وهو" أحمد موسى سلامة"، وصار الفلسطينيون يعتبرون الأول من كانون الثاني/ يناير 1965 تاريخاً لانطلاق ثورتهم المعاصرة .
سبق انطلاقة حركة فتح بنحو ستة أشهر ، ولادة منظمة التحرير الفلسطينية (ممثلة للشعب الفلسطيني وقائدة لكفاحه من أجل تحرير وطنه) ، في أعقاب انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول بتاريخ 28 أيار عام 1964 بالقدس قبل احتلالها في حرب 1967، بمشاركة وزراء الخارجية العرب ، وقد أقر المؤتمر "الميثاق الوطني الفلسطيني" والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية،) وفي ختام أعماله أعلن احمد الشقيري يوم 2 حزيران/ يونيو 1964م ولادة منظمة التحرير الفلسطينية (ممثلة للشعب الفلسطيني وقائدة لكفاحه من أجل تحرير وطنه ، وعملت منظمة التحرير الفلسطينية على إنشاء بعض المؤسسات التابعة لها مثل جيش التحرير الفلسطيني، والإذاعة، ومركز الأبحاث، ومكاتب في معظم بلدان العالم، والاتحادات الشعبية الفلسطينية، والمجلس الوطني الفلسطيني ، وشكلت المنظمة اطارا عاما اندرجت ضمنه مختلف الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تشكلت تباعا ، وصار لها مرجعيات فكرية وايدولوجية متعددة ، بعضها ذات صبغة يسارية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثم الجبهة الديمقراطية التي انشقت عنها ، وكانتا تتبنيان النظرية " الماركسية- اللينينية" ، وأخرى قومية ونموذجها "جبهة التحرير العربية " التي كانت مدعومة وممولة من العراق في زمن حكم حزب البعث ، ومنظمة " الصاعقة " التي كانت ممولة من قبل نظام حافظ الاسد في سوريا ، وبسبب تعدد المرجعيات السياسية والايديولوجية حدثت تباينات في المواقف والرؤى السياسية انعكست سلبا داخل منظمة التحرير، وأصبحت منظمة التحرير مسرحا لتضارب وتناقض مواقف وسياسات الانظمة العربية ،أما حركة فتح التي كانت أكبر وأقدم التنظيمات الفدائية ، فقد نأت في ثوابتها عن تبني فكر حزبي أحادي، باعتبارها حركة تحرر وطني تمثل الشعب بطوائفه وطبقاته وقطاعاته كافة، وفتحت الباب أمام تيارات سياسية وفكرية للانتماء إليها ! وخلال عقدي السبعينات والثمانينات حدثت انشقاقات في بعض الفصائل الفلسطينية نتيجة لخلافات في الرؤى أو بسبب التنافس على الزعامة .
بعد هزيمة حزيران عام 1967 توسع العمل الفدائي وكانت الاراضي الأردنية ساحته الرئيسية ، وانتشرت قواعد الفدائيين في الاغوار وعديد المدن وكانت البداية مثير للأعجاب وكثيرون كانوا يعتقدون بأن الفدائي يحمل روحه على راحته ، وفتحت المنظمات الفدائية أبواب الانتساب اليها لمن يرغب من مختلف الأقطار العربية وخاصة من قبل عناصر أردنية ، لكن الصورة تغيرت في وقت لاحق ، وكانت تتنافس على من يكسب أكبر عدد من المنسبين بغض النظر عن معرفتهم السياسية والايديولوجية والفكرية للفصيل الذي ينتسبون له ، وغطى على العمل الفدائي في تلك الفترة البعد الاستعراضي ، بل وصل الى حد التدخل في الأمور الاجتماعية من خلافات عائلية واطلاق النار في الأعراس، وغير ذلك من أفعال ليس لها علاقة بفكرة العمل الفدائي ، أما تنفيذ العمليات الفدائية فقد تعددت اشكالها ، بين مهاجمة مواقع عسكرية اسرائيلية عبر نهر ثم الانسحاب الى القواعد الخلفية في الضفة الشرقية ، كما لجأت بعض الفصائل الى خطف طائرات مدنية واحتجاز ركابها رهائن ، أو مهاجمة مواقع في دول أجنبية كما حدث عندما هاجم مسلحون ينتمون الى أحدى الفصائل دورة الألعاب الأولومبية في ميونخ بألمانيا بتاريخ 5 أيلول عام 1972، وأسفرت العملية عن مقتل 11 اسرائيليا بعد ان حاولوا أخذهم كرهائن بالاضافة الى مصرع المهاجمين الثمانية .
وبعد الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 وحصار بيروت ،واجهت منظمة التحرير تحديا استراتيجيا تمثل بترحيل عناصر وكواردر المنظمة وعددهم "14,614" مقاتل فلسطيني ، من لبنان الى تونس تحت الحماية الدولية ، وبضمانة من الرئيس الاميركي في حينه دونالد ريغان، وشكلت تلك العملية ضربة موجعة لمنظمة التحرير وفكرة العمل الفدائي الفلسطيني، الذي يفترض ان يمارس من داخل فلسطين المحتلة او البلدان المجاورة .وخلال مسيرة العمل الفدائي اغتالت قوات الاحتلال وجهاز الموساد الاسرائيلي العديد من قادة الفصائل الفلسطينية والكتاب والمفكرين والمثقفين الفلسطينيين في بيروت وتونس ولندن وأماكن أخرى .
وفي عام 1984 عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورة استثنائية في عمان ، لأول مرة منذ خروج العمل الفدائي من الأردن بعد عام 1971، ناقشت مسيرة منظمة التحرير وما واجهته من تحديات وأزمات وخاصة بعد الرحيل الى تونس ، وانشغال العراق في الحرب مع ايران ، وما هي الافاق التي تنتظر حركة التحرر الوطني الفلسطيني . وفي شهر ديسمبر عام 1986 ظهر في الساحة الفلسطينية فصيل جديد هو حركة حماس وأسسها المرحوم الشيخ أحمد ياسين ،وانطلقت شرارتها الاولى من قطاع غزة ، وهي تنتمي فكريا الى جماعة الاخوان المسلمين ولها جناح عسكري اسمه " كتائب عز الدين القسام "، وفي عام 1987 انطلقت الانتفاضة الأولى داخل الاراضي المحتلة في غزة والضفة الغربية ،التي سميت انتفاضة الحجارة حيث لم يستخدم فيها الفلسطينيون السلاح ،واستمرت تلك الانتفاضة الى حتى عام 1992، وفي عام 1993 حدثت مفاجأة مدوية كانت بمثابة زلزال سياسي تمثلت بتوقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات واسرائيل برعاية اميركية وبناء عليه اعترفت المنظمة رسميا باسرائيل !
ومع القاء منظمة التحرير السلاح وانخرطها في نهج التسوية ضمن اشتراطات اتفاق اوسلو ، الذي تسبب بخلافات عميقة بين النخب والفصائل والمجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج ، بدات حركة حماس تكتسب شعبية متزايدة في الاوساط الفلسطينية نظرا للأهداف التي تبنتها ، وانتهاجها طريق المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين وعدم اعترافها بدولة اسرائيل ، وشنت الحركة عشرات العمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة قتل فيها مئات الإسرائيليين، خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت شرارتها الأولى من قطاع غزة عام 1987 عندما كانت تحت السيطرة الإسرائيلية وامتدت إلى الضفة الغربية ، وتوقفت مع توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 .
وتعزز دور وشعبية حماس في الساحة الفلسطينية انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية ، التي اندلعت عام 2000 بعد دخول رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق آرييل شارون للمسجد الأقصى فقد كانت أكثر دموية وعنفا من الانتفاضة الأولى واستخدمت الاسلحة من قبل الفلسطينيين و قتل فيها 4200 شخص من الطرفين، وكانت فعالية ودور حماس يتزايد مع تزايد المؤشرات على فشل اتفاق اوسلو وعدم التزام اسرائيل بنصوص الاتفاق، وخاصة رفضها اقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 ، وشنت إسرائيل عمليات اغتيال واسعة لتصفية قادة وكوارد حركة حماس منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، ولم تميز بين الكوادر السياسية والعسكرية في الحركة ،وأبرز من اغتالتهم مؤسس الحركة الشيخ احمد ياسين . وبسبب قوة المقاومة في قطاع غزة انسحبت قوات الاحتلال من قطاع غزة عام 2005 وفككت المستوطنات المقامة فيه ،عندما كان شارون يتولى رئاسة حكومة الاحتلال .
وكان من المؤشرات الرئيسية على زيادة شعبية حماس فوزها في انتخابات عام 2006 ، وتشكيلها حكومة برئاسة اسماعيل هنية لكن سلطة رام الله ضاقت ذرعا بذلك باعتبارها استحوذت على جزء كبير من صلاحيات رئيس سلطة أوسلو محمود عباس، الذي يترأس أيضا منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح ، التي تتولى ادارة ملف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال وفقا لاشتراطات أوسلو ، وهو دور يتناقض مع شعار مقاومة الاحتلال الذي تتبناه حركة حماس ، وعليه افتعلت حركة فتح صدامات مع كوادر حماس في قطاع غزة ، وكانت النتيجة المعروفة بقيام حماس بطرد فتح من قطاع غزة ، وتولي حماس ادارة شؤون القطاع بكل ما ترتب على الانقسام من نتائج سلبية ! وبعد سيطرة (حماس) على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007، أعلنت إسرائيل في سبتمبر/أيلول 2007 غزة "كيانا معاديا"، وفي أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة فرضت عليها حصارا شاملا ، ومنذ سحبت قواتها وهي تنفذ عمليات عسكرية في القطاع من حين لآخر، بعضها تحول إلى حروب استمرت أسابيع وخلفت آلاف الشهداء ، وكانت المقاومة الفلسطينية التي تشكل كتائب القسام التابعة لحركة حماس عمودها الفقري وتليها حركة الجهاد الاسلامي ، ترد بقصف المستوطنات غلاف غزة بالصواريخ ، وفي عمليات أخرى استهدفت القدس ومدن اسرائيلية أخرى .
ويمكن الاشارة الى أبرز الحروب والاعتداءات التي شنتها قوات الاحتلال على القطاع منذ حصاره ، وردود المقاومة الفلسطينية عليها التي وقعت في الاعوام " 2008 ، 2012 ، 2014 ، 2019 ، 2021 ، 2022 " وكانت أهم هذه الحروب الدائرة الان منذ السابع من شهر اكتوبر الماضي، والتي بدأتها حركة حماس واسمتها "طوفان الأقصى"، وشملت هجوما بريا وبحريا وجويا وتسللا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة ، واستطاعت المقاومة خلال أيام قليلة السيطرة على عدة مستوطنات وقواعد عسكرية في الغلاف ، وكانت هذه العملية بمثابة زلزال سياسي وأمني كسر هيبة جيش الاحتلال ،الذي رد بروح الانتقام في حرب تستهدف المدنيين والمرافق المدنية والمستشفيات والمدارس والجامعات ،وهذه الحرب ربما تكون الاولى التي يتكبد فيها العدو هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى، الذي يقدر عددهم حتى الان بنحو عشرة الاف ، فضلا عن أسر ما يقارب 250 شخصا بين عسكري ومدني ، بينما سقط من الفلسطينيين حتى الان نحو 18 ألف شهيد غالبيتهم من الاطفال والنساء وأكثر من 50 ألف جريح ، ودمر القصف الإسرائيلي الكثير من المباني السكنية والمرافق الحيوية، وأعلنت إسرائيل قطع الماء والكهرباء عن قطاع غزة، وإغلاق جميع المعابر والمنافذ المؤدية إليه، وهددت بضرب أي شاحنات إغاثة للقطاع تأتي عبر معبر رفح المصري .
ولمن يتساءلون : كيف لحركة مقاومة بأسلحة بسيطة مقارنة بترسانة هائلة يمتلكها جيش الاحتلال من أحدث الأسلحة الاميركية ،أن تصمد وتواصل القتال في هذه الحرب الوحشية ؟ والجواب ببساطة ، ان النمط الفدائي تغير عما كانت تتبعه الفصائل الفلسطينية في العقود الماضية ، وما يميز كتائب "القسام" التسلح بالعقيدة "الجهادية" والروح الاستشهادية ،التي تتفوق على العدو في المواجهة والقتال الميداني من" مسافة صفر" ، بينما هو يستخدم الطائرات المقاتلة والمدفعية الثقيلة والسفن الحربية ويستهدف المدنيين العزل ، فضلا عن الاعداد والتخطيط الجيد ، وممارسة العمل الفدائي من تحت الأرض ، حيث انشأت "القسام" شبكة أنفاق تحت أرض قطاع غزة تمتد لمئات الكيلومترات ، والتي تحتوي أيضا على ورش لصناعة الأسلحة.
وحسب التقديرات الموضوعية والتي يعترف العدو بصحة قدر كبير منها، فان خسارته البشرية وفي الاليات "دبابات ومدرعات وغيرها " تفوق ما خسره العدو في بعض الحروب النظامية مع جيوش عربية .
Theban100@gmail.com
تابعو الأردن 24 على google news