الشيشان و وضع السياسة المؤلم
شاءت الأقدار ان تقترف بعض الدول و الحكومات اخطاء تاريخية جسيمة لم تمحى آثارها إلى الآن , بناءً على معطيات و حقائق كان لا بد من تنفيذها في ذلك الوقت. فلو لاحظنا ان جميع الحروب الاعلامية في وقتنا الحاضر تستخدم مأساة هذا الشعب او ذاك كموضوع اساسي و رئيسي لحرب الاشاعات و جزء اساسي لكسب اية معركة سياسية أو عسكرية حتى . على سبيل المثال، موضوع الابادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك . فهذه فرنسا استخدمت كل الوسائل و الطرق لمنع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي و كان اخرها اعترافها بالابادة الجماعية للارمن على يد الاتراك و كان الاعتراف على اعلى المستويات السياسية و الرسمية في البلاد . و نظراً لموقف تركيا المتشدد من هذه القضية ، و التحركات السياسية الداخلية و الخارجية لتركيا التي رافقت الاعتراف ، اصبح اعتراف فرنسا واحد من الأسباب الإضافية و الرئيسية لرفض انضمام تركيا إلى منظومة الاتحاد الأوروبي.
و من المآسي التاريخية الاخرى التي يستخدمها البعض كأداة ضغط و ابتزاز، قضية ترحيل الشيشانيين و الانغوش التي وقعت في 23 فبراير 1944 و مما لا شك فيه بأن هذا الحدث اثر على مصير مستقبل هذا الشعب القوقازي حتى وقتنا الحاضر. على الرغم بأن الرأي العام الغير الرسمي وقتها اعتبرهم خائنين للأمة لتحالفهم مع النازيين ضد أبناء بلدهم ، حدث ما حدث . و لكنها ستبقى بالتأكيد مأساة شعب و كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى!
فمنذ زمن بعيد و حتى وقتنا هذا لم تتوقف المحاولات لإنشاء جبهات انفصالية في شمال القوقاز ، وقودها لا يبدأ بقضية " الإبادة الجماعية الشركسية " ، و لا ينتهي عند " القضية الشيشانية ". وكل هذا يتم تحت غطاء الوطنية أولاً ، و مع عنصر التبرير الديني ثانياً و هو الاهم. فلا أحد يبرر ما قام به المجرمان "ستالين و بيري" ، اللذان اضرا في المقام الأول الروس أنفسهم بافعالهم تلك . لكن نحن نتحدث عن شيء آخر و هو : بأن الهدف الرئيسي من هذه التحركات و المشاغبات هو ضمان إضعاف روسيا خارحياً و ذلك بانهاكها بالصراعات الداخلية وليس احقاقاً للعدالة التاريخية كما يزعمون. و سعياً لتحقيق هذا الغرض ، يتم استخدام قضية إبعاد الشيشانيين مرة و قضية الإبادة الجماعية للشركس مرة اخرى من قبل الغرب و تحت غطاء حقوق الإنسان و العدالة التاريخية الخ... و لكن عندما يقوم الناتو المدعوم من الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة بقصف القرى في أفغانستان وليبيا و العراق طبعاً عن طريق الخطأ، و تقتل عائلات باكملها من المدنيين و قرى تحرق باكملها و يشرد أهلها ، لن تجد شخصاً واحداً بطبيعة الحال يندد و السبب بسيط برأيهم بأن إرساء الديمقراطية و الحرية تتطلبان ذلك . هذه الجرائم التي اقترفها الغرب باسم الحرية و العدالة . لا تعدو كونها مجرد الوجه الآخر الحقيقي و القبيح للغرب و سياسته الخارجية المبنية على فكرة التفوق العرقي . وبالتالي ، فان مصير الشعب الشيشاني بالنسبة لهم لا يتعدى كونه حقل تجارب على صبر و قوة الدب الروسي! فكلمات الزعماء الانفصاليين الشيشان الذين يرددونها دوماً كتلك العبارات " المقاتلين من أجل الحرية "و " النضال من أجل التحرر الوطني " ، مهما كانت انيقة و رنانة لن تغير جوهرهم اللصوصي المجرم.
لهذا و لتعزيز موقفهم في المواجهة، يقوم الخبراء الغربيين بشكل دائم و نشط على إقامة النشاطات و البرامج لمناقشة موضوع الشتات، و خصوصاً للشيشان الذين يعيشون خارج روسيا الذين نزحوا بشكل جماعي إبان الحرب القوقازية ، او تلك الفئة من الناس التي لم تتقبل الحكومة الجديدة و فضلت السفر للخارج، هذه الفئة كان من بينهم العديد الذين لهم عطش للانتقام. عطش في تقليب صفحات الألم التاريخية بإعتبارها شكلاً من أشكال الاحتجاج، هؤلاء لعبوا دوراً في تأجيج المشاعر المعادية لروسيا. و اظن انه قد اخطأ كل من سلك هذا الطريق فمن الواضح على الأقل ، انه لم يحدث اي تطور ملموس في المجتمعات الشيشانية في الشتات ، على العكس تماماً من أولئك الذين لم يغادروا وطنهم.
مثلاً دعونا ننظر الى الشيشان المقيمين في سوريا. و الرغبة المستمرة لإستيعابهم و طمس هويتهم وفرض حظر على تدريس اللغة الأم لهم، و لكن ، لا بد أن نشيد بحقيقة ان بعض الأنظمة العربية قامت بالاعتماد عليهم كمحاربين و ضباطاً في الجيش نظراً لشجاعتهم و عزمهم الشديد. مثال على ذلك الأردن. ولكن و مع هذا لن نجد بلداً واحداً يعطيهم الحق في تعلم لغتهم بشكل رسمي . و كما نعلم ، لا يوجد لغة - لا يوجد شعب ، فطمس الهوية الوطنية بين الشيشانيين في الشتات يجري على قدم و ساق . و لكم في تركيا مثال على ذلك في قدرتهم على الاستيعاب الناجح للشيشانيين هناك . في الماضي كانت هناك متابعة صارمة للأقليات هناك . و حاول ان لا تتعلم اللغة التركية أو تجرأ على تعليم اللغة الأم و سترى ما سيحدث لك ! فقط في السنوات الأخيرة ، شرعت السلطات التركية على تطوير المناهج الوطنية والثقافية للأقليات على أرضها في محاولة منها لاظهار نفسها كدولة أوروبية تحترم الاقليات و حقوقهم الثقافية. الآن مثال آخر - روسيا- فالجمهوريات الصغيرة في الاتحاد الروسي ليست فقط قادرة على العيش في مناطقها الإقليمية ، ولكن أيضا قادرة على الحفاظ على الثقافة والعادات و اللغة. بالمقارنة، ( بغض النظر عن مدى سوء المعاملة في الحقبة السوفياتية ) مع السياسة الداخلية التركية آنذاك ، فخلال الحقبة السوفياتية واقعياً لم تتأثر الشعوب كثيراً نتيجة الاندماج مع بعضها البعض ، لأن السوفييت احترموا إلى حد ما ثقافة و لغة الشعوب التي تعيش على أراضيها. فسياسة الاستيعاب السوفياتي آنذاك ستبقى انقى و انظف من قذارة السياسة التركية ! فروسيا سمحت لجمهورياتها مشاركة العالم الفن والعلم ، و في نفس الوقت حرصت على عدم خسارتها لهويتهم الوطنية . فالذي يقرأ قليلاً من التاريخ يعلم أن معظم الحروب الاستعمارية الدموية كانت حروب الغرب ضد شعوب آسيا وأفريقيا و هدفها الأول هو طمس الثقافات و تاريخ الشعوب.
فقضية الترحيل القسري للشيشان اثارت الفضول لدى العديد من المنظمات غير الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية. و تمكنوا من حشر انفهم فيها حتى بعد اعتماد القانون المثير للجدل الذي ينظم عمل المنظمات غير التجارية في الاتحاد الروسي . بحيث وجهوا آلاتهم الاعلامية باضواءها و ابواقها نحو هدف محدد ألا و هو قضية الترحيل القسري . في محاولة منهم للضرب على النقاط الحساسة المؤلمة و على جميع الجبهات الداخلية لروسيا، و تمهيد الأرضية المناسبة للمزيد من التطرف الأيديولوجي لخلق اكبر عدد ممكن من المجموعات الانفصالية الداخلية في المنطقة ، طبعاً بمساعدة اولئك الذين يعيشون في الخارج! وقتها ماذا سيحدث؟ ، ببساطة يمكننا أن نتخيل ماذا سيحدث لو نظرنا قليلاً الى ما يجري الأن في أوكرانيا. فعلى خلفية احتقانات اجتماعية و سياسية ( إفقار الشعب، و الفساد ، و الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ) قامت الاحتجاجات على ايدي اقلية مدعومة من الغرب و التي ادت الى مواجهة مسلحة ضد السلطات الشرعية مما أدى إلى وقوع العديد من الضحايا و بات الاقتصاد الأوكراني على شفا الانهيار.
فواجب السلطات الروسية ان تمنع حدوث السيناريو الأوكراني في شمال القوقاز . فالشعار الذي رفعه بعض السخفاء في روسيا و الغرب قبل عدة سنوات " يكفي إطعام القوقاز " رغبة منهم في اشعال نار الفتنة داخل روسيا فشل فشلاً ذريعاً . فأنتقلوا سريعاً إلى قضية الترحيل القسري و بدأو بتضخيمها إعلامياً لتأليب المجتمع الدولي على الحكومة الروسية الحالية، برأيي اتهام السلطات الروسية الحالية و تجريمها بسبب أخطاء الماضي البعيد المضطرب هو أمر غير عادل و غير مجدي و غير فعال. وبالتالي فإن قضية الترحيل - هو موضوع يصلح فقط للمنتديات ، والمناقشات بين المختصين العلماء والطلاب. فالمواد الأرشيفية التي توثق تلك المرحلة لا تزال موجودة و لم يمسها أحد. - هذا فقط يمكن تطبيقه ان وجدت الرغبة الحقيقية في الوصول إلى الحقيقة ، وليس الجري وراء رائحة الدم- لانه و للأسف الكثير من تاريخنا كتب بالدم فقط، و هو نفس الطريق الذي سيؤدي إلى الانقسام و المواجهة من جديد لو سلكناه.