زرعوا فحصدنا
ربما لم يكن ذلك الشيخ الحكيم يدرك أن الكلمة التي قالها ردا على من سأله مستغربا كيف يزرع ما لا أمل له بالبقاء حتى يثمر ويأكل من ثمره قائلا : غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون . لم يكن يعلم أن هذه الكلمة ستصبح حكمة تتناقلها الأجيال ، وتستحق أن تُكتب بماء الذهب . فهي تدل على استمرارية الحياة ، ونبذ الأنانية التي تجعل الفرد لا يعمل إلا ما يرجى نفعه الخاص . فكل شيء يحتاج وقتا حتى يُؤتي أُكُله . فالزمن الفاصل بين البداية والنهاية أو من الفعل إلى النتيجة ، تجعل أن من يقوم بالعمل قد لا يكون هو من يصل إلى النتيجة .
فقد لا يصل الثوار أو طلائعهم إلى القيادة . وقد لا يحصلوا هم على الحرية والاستقلال . وإنما يكون دورهم تعبيد الطريق ، وتهيئة الأجواء كي يقطف غيرهم الثمرة ، ويصلوا إلى النتيجة . انه جهد متراكم ، وجهاد متواصل ، وحلم دائم حملته الأجيال ، وبذل في سبيله الأجداد والآباء راحتهم وأعمارهم ، وأرضعته الأمهات لأطفالها حليبا اختلط بدموعها ، حتى يأذن الله للفجر أن ينبلج ويتحقق حلم الأجيال ، فسبحان من بيده الأمر .
لقد أحسن الرئيس المصري الجديد حين أشار إلى أن ما وصل إليه هو نتيجة جهود سابقة . وأن هذه الشجرة التي أينعت ثمارها كان لها جذور عميقة ضاربة في الأرض روتها دماء غزيرة ودموع حارة . فكانت هذه اللحظة هي نتاج عذابات وآهات ودعوات . صبروا صبرا جميلا محتسبين في سبيل الله ومحبة للوطن . وقد ذكّرنا الأخ الكاتب المهندس هشام خريسات في مقالة له بإحدى هذه الحالات التي عانت وضحّت وصبرت راضية مطمئنة ( كمال السنانيري وأمينة قطب ) وهناك غيرها كثير ، إلا أنها تميّزت بإنسانيتها . حصد الأبناء الجائزة ، وفاز هؤلاء الرواد الزارعون برضى الله وذكر الناس ودعواتهم . وما كان ربك نسيّا .
إننا نعرف حالات كثيرة لأفراد ضربوا في الأرض يبتغون من فضل الله ، جمعوا المال بجهدهم وعرقهم وبشق الأنفس ، حرموا أنفسهم من أساسيات الحياة ليبنوا بيتا .... لم يسكنوه . أو لتعليم أبناء وإيصالهم إلى أعلى المستويات ، وقبل أن تكتمل فرحتهم ... غادروا باطمئنان .
لكل هؤلاء الذين زرعوا ولم يحصدوا ، أو بدأوا ولم يصلوا ، إن جهدكم لن يضيع وستقدره الأجيال وأهل السماء . وأجركم عظيم ، فثمرة جهدكم سيتضاعف مع كل جيل وكل منتفع . ويكفي أن لكم فضل السبق والريادة وأنكم أصحاب همة عالية ونكران للذات . والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .