على "اليرموك" قف واقرأ سلاما
عيسى الشعيبي
جو 24 :
ليس لدينا مرجع يبين لماذا أطلق الرئيس السوري شكري القوتلي، العام 1957، اسم اليرموك على رقعة الأرض الواقعة جنوب دمشق، حيث كانت أول البيوت لمخيم فلسطيني ظل يكبر ويتسع مع مرور الوقت الطويل، إلى أن أصبح حياً من أحياء العاصمة السورية، وصار سكانه جزءا من النسيج الاجتماعي للبلد الذي منح اللاجئين من أبناء سورية الجنوبية حقوق التملك والعمل والتنقل بدون قيود أمنية.
ذلك أن سائر مخيمات الشتات في سورية ولبنان والأردن، جرى تسميتها بأسماء الأماكن التي نصبت فيها أول الخيام المهلهلة وبيوت التنك، الأمر الذي بدا معه اسم "اليرموك" الاستثناء على القاعدة. وهو ما يوحي لنا أن القوتلي -الذي لقّبه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر باسم "المواطن الأول" العام 1958 إثر قيام الوحدة- كان يستحضر في ذهنه معركة اليرموك، بكل ما تنطوي عليه من نتائج باهرة ومعاني فتح أثيرة.
والحق أن هناك الكثير مما كتب وسيكتب عن ذلك المخيم الذي بات بمثابة عاصمة رمزية للمجتمع الفلسطيني في سورية، بل وعاصمة سياسية معنوية له؛ ليس بفضل عدد سكانه فحسب، وإنما كذلك لما خرّجه من قادة سياسيين وشهداء ومثقفين ومهنيين ساهموا في إثراء الحياة الاجتماعية للمخيم وللجوار السوري معاً، الأمر الذي جعل منه مركزاً حضرياً مفعماً بالحيوية، وبيتاً سياسياًَ واسعاً للأحزاب والقوى السياسية، سواء أكانت فلسطينية أم سورية بدون تفريق.
اليوم، يعود مخيم اليرموك ليتصدر واجهة الأحداث الدموية في الديار الشامية. ويبعث استهدافه بطائرات "الميغ" وراجمات الصواريخ الأسدية، عاصفة قلق شديد في الذاكرة الفلسطينية المثخنة بالجراحات العميقة والتجارب المريرة، وذلك بعد أن تمكنت مجموعات فلسطينية مرتبطة بأجهزة أمن علي مملوك من إخراج المخيم عن حياده، وجره إلى معركة أمسك سكانه عن خوض غمارها، بتوافق سائر الفصائل والقوى الأخرى التي لا يملك أي منها بندقية واحدة.
لم يكن مخيم اليرموك أول مخيم فلسطيني تقصفه المدافع ويحاصره الشبيحة، إذ سبقه إلى ذلك مخيم الرمل قرب اللاذقية، وقبله كان مخيم درعا الذي تم حرق بيوته وتدميره عندما أوحت بثية شعبان أنه جحر المؤامرة الكونية. إلا أن "اليرموك" كان الأول الذي تشن عليه طائرات "الميغ" غارات عديدة؛ فكانت هذه الفعلة النكراء من جانب نظام المقاومة المزعوم أكثر بلاغة من كل خطاب سابق مشكك في تهافت ادعاءات الممانعة الأسدية.
ولا أحسب أن أحداً بعد اليوم، له عقل سوي وضمير يقظ، يمكن له أن يجادل في ماهية الحلف المذهبي المسمى باسم حلف الممانعة، وذلك بعد أن بات "اليرموك" برمزيته الفلسطينية تلك، هدفاً لتلك الطائرات التي لم تقترب من حدود الجولان مرة واحدة، ولم تهدر في السماء السورية أبداً، حتى بعد أن جالت الطائرات الإسرائيلية وقصفت غير مرة واحدة في عمق أراضي "سورية الأسد"، بل وحامت فوق القصر الرئاسي الصيفي غير هيابة.
مع قصف مخيم اليرموك بالطائرات والراجمات الثقيلة، ودفع سكانه إلى الهجرة مرة أخرى نحو اللامكان بعينه، يكون بشار الأسد قد أخذ حصته من الدم الفلسطيني، بقسط قد لا يعادل حصة أبيه من هذا الدم المراق قبلاً في مخيمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا والبداوي ونهر البارد.. والقائمة طويلة، إلا أنها لم تعد تشكل الآن سوى نقطة من بحر الدماء السورية واللبنانية والعراقية التي أهرقها الأب والابن، كخالدين على لائحة عار التاريخ الأبدية.
خلاصة القول، إن سكان "اليرموك" الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا يستطيعون عزل أنفسهم عن محيطهم، لم يكونوا في وضع يسمح لهم، مادياً أو أخلاقياً، بمنع الجيش الحر من دخول المخيم، لاسيما أنه جيش ليس معادياً لهم، وأن من يقصفهم ويدفعهم الى نكبة جديدة هو النظام المتقهقر وليس الثوار الذين استكملوا في "اليرموك" بناء القوس الجنوبي حول دمشق؛ ذلك القوس الذي دخلت منه كل الفتوحات والجيوش الغازية، على مر تاريخ العاصمة الأموية.
(الغد)
ليس لدينا مرجع يبين لماذا أطلق الرئيس السوري شكري القوتلي، العام 1957، اسم اليرموك على رقعة الأرض الواقعة جنوب دمشق، حيث كانت أول البيوت لمخيم فلسطيني ظل يكبر ويتسع مع مرور الوقت الطويل، إلى أن أصبح حياً من أحياء العاصمة السورية، وصار سكانه جزءا من النسيج الاجتماعي للبلد الذي منح اللاجئين من أبناء سورية الجنوبية حقوق التملك والعمل والتنقل بدون قيود أمنية.
ذلك أن سائر مخيمات الشتات في سورية ولبنان والأردن، جرى تسميتها بأسماء الأماكن التي نصبت فيها أول الخيام المهلهلة وبيوت التنك، الأمر الذي بدا معه اسم "اليرموك" الاستثناء على القاعدة. وهو ما يوحي لنا أن القوتلي -الذي لقّبه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر باسم "المواطن الأول" العام 1958 إثر قيام الوحدة- كان يستحضر في ذهنه معركة اليرموك، بكل ما تنطوي عليه من نتائج باهرة ومعاني فتح أثيرة.
والحق أن هناك الكثير مما كتب وسيكتب عن ذلك المخيم الذي بات بمثابة عاصمة رمزية للمجتمع الفلسطيني في سورية، بل وعاصمة سياسية معنوية له؛ ليس بفضل عدد سكانه فحسب، وإنما كذلك لما خرّجه من قادة سياسيين وشهداء ومثقفين ومهنيين ساهموا في إثراء الحياة الاجتماعية للمخيم وللجوار السوري معاً، الأمر الذي جعل منه مركزاً حضرياً مفعماً بالحيوية، وبيتاً سياسياًَ واسعاً للأحزاب والقوى السياسية، سواء أكانت فلسطينية أم سورية بدون تفريق.
اليوم، يعود مخيم اليرموك ليتصدر واجهة الأحداث الدموية في الديار الشامية. ويبعث استهدافه بطائرات "الميغ" وراجمات الصواريخ الأسدية، عاصفة قلق شديد في الذاكرة الفلسطينية المثخنة بالجراحات العميقة والتجارب المريرة، وذلك بعد أن تمكنت مجموعات فلسطينية مرتبطة بأجهزة أمن علي مملوك من إخراج المخيم عن حياده، وجره إلى معركة أمسك سكانه عن خوض غمارها، بتوافق سائر الفصائل والقوى الأخرى التي لا يملك أي منها بندقية واحدة.
لم يكن مخيم اليرموك أول مخيم فلسطيني تقصفه المدافع ويحاصره الشبيحة، إذ سبقه إلى ذلك مخيم الرمل قرب اللاذقية، وقبله كان مخيم درعا الذي تم حرق بيوته وتدميره عندما أوحت بثية شعبان أنه جحر المؤامرة الكونية. إلا أن "اليرموك" كان الأول الذي تشن عليه طائرات "الميغ" غارات عديدة؛ فكانت هذه الفعلة النكراء من جانب نظام المقاومة المزعوم أكثر بلاغة من كل خطاب سابق مشكك في تهافت ادعاءات الممانعة الأسدية.
ولا أحسب أن أحداً بعد اليوم، له عقل سوي وضمير يقظ، يمكن له أن يجادل في ماهية الحلف المذهبي المسمى باسم حلف الممانعة، وذلك بعد أن بات "اليرموك" برمزيته الفلسطينية تلك، هدفاً لتلك الطائرات التي لم تقترب من حدود الجولان مرة واحدة، ولم تهدر في السماء السورية أبداً، حتى بعد أن جالت الطائرات الإسرائيلية وقصفت غير مرة واحدة في عمق أراضي "سورية الأسد"، بل وحامت فوق القصر الرئاسي الصيفي غير هيابة.
مع قصف مخيم اليرموك بالطائرات والراجمات الثقيلة، ودفع سكانه إلى الهجرة مرة أخرى نحو اللامكان بعينه، يكون بشار الأسد قد أخذ حصته من الدم الفلسطيني، بقسط قد لا يعادل حصة أبيه من هذا الدم المراق قبلاً في مخيمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا والبداوي ونهر البارد.. والقائمة طويلة، إلا أنها لم تعد تشكل الآن سوى نقطة من بحر الدماء السورية واللبنانية والعراقية التي أهرقها الأب والابن، كخالدين على لائحة عار التاريخ الأبدية.
خلاصة القول، إن سكان "اليرموك" الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا يستطيعون عزل أنفسهم عن محيطهم، لم يكونوا في وضع يسمح لهم، مادياً أو أخلاقياً، بمنع الجيش الحر من دخول المخيم، لاسيما أنه جيش ليس معادياً لهم، وأن من يقصفهم ويدفعهم الى نكبة جديدة هو النظام المتقهقر وليس الثوار الذين استكملوا في "اليرموك" بناء القوس الجنوبي حول دمشق؛ ذلك القوس الذي دخلت منه كل الفتوحات والجيوش الغازية، على مر تاريخ العاصمة الأموية.
(الغد)