jo24_banner
jo24_banner

عبثية الحرب ضد الجماعات الثقافية

عيسى الشعيبي
جو 24 : في زمن انفجار ثورة المعرفة، وانفتاح الفضاء على اتساعه أمام مخرجات تكنولوجيا الاتصالات الرقمية المتعاظمة، اكتسب الإعلام قوة دفع لا سابق لها، وبات يشكل بحق سلطة رابعة معترفا بها، تنافس السلطات الدستورية الثلاث برشاقة، وتتقدم على بعض منها في كثير من الأوقات والأمكنة، حتى في أكثر الدول استبدادا وقمعية، وذلك على نحو ما تشهد به مختلف الوقائع اليومية السائدة في المجال العام.
وتتزامن هذه الحقيقة المسلم بها اليوم للسلطة الرابعة، مع ازدياد وزن الثقافة في حياة المجتمعات تدريجيا، وصعود دور المثقفين ذوي القامات الرفيعة في الحياة العامة، خصوصاً مع تقلص سلطات الرقابة الكلاسيكية، إن لم نقل تعذر إنفادها، ناهيك عن تنوع وسائل النشر ومنابره في زمن الإعلام الجديد، وتعاظم الطلب على نجوم الفكر والرأي والفن لإثراء الحوارات التلفزيونية وتنويع المناقشات، وتكريس مفهوم التعددية كمبدأ أساسي للحياة السياسية في الدول المعنية.
ومع أن الثقافة لم تَرقَ منزلة إلى مستوى يناظر مكانة الإعلام المؤكدة، وقد لا تتوازى حضورا مع هذا الفيض من المواقع والشاشات والصحف في أي مرحلة مقبلة في المدى المنظور، إلا أن التقدم الحثيث الذي يواصل مجتمع المثقفين تحقيقه باطراد ورصانة، من شأنه أن يقرّب المسافة الفاصلة بينه وبين أبناء عمومته في السلطة الرابعة، وقد يؤدي إلى تراكم نوعي في مكتسبات الجماعة الثقافية ذات يوم غير بعيد، وإلى تطويب المبدعين، من كتّاب وفنانين وباحثين وغيرهم ممن يشكلون وجدان الأمة، كسلطة خامسة أكثر مهابة.
وبقدر ما كانت الحروب التي شنتها السلطات الحاكمة على الإعلام بضراوة، خصوصاً في عصر الفضائيات والإنترنت، هي معارك خاسرة بالجملة، حتى في زمن القمع والمصادرة والتغوّل على حرية التعبير التي تعتبر الفاتحة الأولى لكل الحريات الأخرى، بقدر ما تبدو عليه الحرب ضد الثقافة، من جانب بقايا الأنظمة الشمولية والقوى الظلامية، معارك فادحة الخسارة سلفاً، بل وعبثية في مطلق الأحوال، أو قل كبندقية مرتدة الطلقات تصيب أصحابها في مقتل، وتحيلهم إلى نفايات تاريخية بغيضة.
والحق أن ما أملى هذه السطور، ودفع بها إلى مقدمة الاهتمام الشخصي، هو ذلك المشهد الجاري تباعا أمام وزارة الثقافة المصرية، منذ نحو ثلاثة أسابيع، حيث تواصل جمهرة من المثقفين والفنانين ذائعي الصيت الاعتصام في مقر الوزارة التي كان قد تولاها أعلام كبار، مثل ثروت عكاشة وعبدالقادر حاتم ويوسف السباعي، في عهد جمال عبدالناصر، وذلك احتجاجاً على قرارات وزير جديد لا يملك أي موروث ثقافي، يسعى إلى "أخونة" الحياة الثقافية المصرية، في إطار مسعى أشمل يطال مختلف جوانب الحياة العامة في أرض الكنانة.
وليس من شك في أن مصير هذه المعركة الهاذية ضد رموز الثقافة وأيقوناتها المعبرة عن وجدان أجيال متعاقبة، ناهيك عن مخزون هائل من الإبداعات المصرية المتنوعة، الغنية والباهرة بكل المعايير، لن يكون مختلفاً في نهاية مطاف قصير عن مصير تلك المعركة التي خاضها الإعلام الخاص، في الصحافة والتلفزيون و"الفيسبوك"، ضد سطوة السلطات الحاكمة، سواء في عهد حسني مبارك أو في زمن محمد مرسي، وكسبها بكل استحقاق وجدارة، وفق ما تنطق به الحالة المصرية الراهنة بكل بلاغة.
وإذا كان لمثل هذه الحروب الطائشة أن تقول لنا شيئاً يمكن البناء عليه، وأن تقدم درساً يحسن الأخذ به، لاسيما في عصر خروج أدوات الاتصال الحديثة عن كل سيطرة محتملة، وبلوغ حرية التعبير أعلى درجات التحقق الممكنة، فإن العظة التي لا تدانيها أي عظة أخرى، تكمن حقيقةً في أن العالم الذي يتجاور فيه الإعلام مع الثقافة في علاقة نسب ومصاهرة، ويتمازجان معا بصورة خلاقة، هو عالم القوة الناعمة التي لا سلطان عليها في أي مكان أو زمان. وبالتالي، يحسن بنا عدم الكباش مع الإعلاميين والمثقفين، وكل أركان هذه القوة التي باتت تعادل معنويا قوة ارتال الجيوش الجرارة. (الغد)
issa.alshuibi@alghad.jo
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير