كبرياء البرازيل وعنجهية إسرائيل
عيسى الشعيبي
جو 24 : في زمن الأسود والأبيض على شاشة التلفزيون في عهده الأول، كان هناك مسلسل كوميدي رائج، يترقبه المشاهدون بلهفة شديدة، اسمه "فندق صح النوم"؛ من بطولة دريد لحام (غوار الطوشة)، ورفيقه نهاد قلعي (حسني البورزان) الذي اشتهر بحسن النية المفرطة في بلاد "حارة كل مين إيده إله"، وبلازمته القائلة: "إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، عليك أن تعرف ماذا يجري في البرازيل"، وذلك كلما وقع في مقلب ساخر من مقالب "غوار".
يمكن اليوم تحوير تلك اللازمة الشهيرة بلا تكلف، بالقول: إذا أردت أن تفهم أسباب شعور الإسرائيليين بالصدمة والذهول في هذه الآونة، وهم اليوم يتلقون صواريخ بعيدة المدى، فإن عليك أن تعرف أسباب شعور البرازيليين بحس الخسارة الثقيلة، بعد خروج فريقهم من المباراة الأخيرة أمام "الماكنات" الألمانية في المونديال الذي جرى في البلد الأكثر شهرة في صناعة كرة القدم، وفي إنتاج النجوم، أو قل اللآلئ التي تمشي على الأرض في المستطيل الأخضر، وتنال البطولات بكل جدارة، جيلاً بعد جيل.
لم تكن تلك هي الخسارة الأولى لفريق كرة القدم البرازيلي، في المونديالات والألعاب الأولمبية السابقة؛ إلا أن الهزيمة هذه المرة كانت بالغة الوطأة على ذلك الشعب الذي تقع الساحرة المستديرة في مركز اهتمامه الأول، خصوصاً وأنها حدثت على أرضه وبين جمهوره، فوق أن نتيجتها كانت مذلّة وساحقة، الأمر الذي جعله غير مصدق لتلك الإهانة التي جرحت كبرياء البرازيل الكروي، فأذهلت الملايين وأبكتهم على الهواء مباشرة.
وأحسب بالمقابل أن مشاعر الابتهاج التي غمرت قلوب الغزيين خاصة، ومشاعر الفلسطينيين عامة، بقدرة المقاومة على قصف عدد كبير من المدن الإسرائيلية البعيدة عن قطاع غزة المحاصر، كان مصدرها الرئيس متمثلا في تحقيق تلك المفاجأة النادرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي؛ بقصف تل أبيب التي ظلت آمنة خلال سائر جولات الحروب السابقة، تسمع عن مجرياتها في الراديو والتلفزيون من دون أن تعيش ويلاتها، وبعكس ما كانت عليه حال المدن والحواضر العربية المحيطة.
ومع أن تلك الصواريخ لم تقتل أحداً على وجه التقريب، ولم تحدث خسائر مهمة، وقد لا تحقق نتيجة سياسية يعتد بها، إلا أن دلالاتها الرمزية والمعنوية كانت كبيرة، كونها جاءت خارج التوقعات المسبقة، وخارقة لكل التوازنات المختلة، لاسيما أنها أتت من جانب قوة صغيرة بكل المقاييس، ضد أكبر وأمضى آلة حربية في الشرق الأوسط، الأمر الذي أصاب العنجهية الإسرائيلية في مقتل، وأنتج مشاعر موازية لما ساد لدى البرازيليين عقب خسارتهم الكروية الفادحة؛ من حس بالإهانة والإذلال، ناهيك عن الفشل والإحباط والذهول، وفوق ذلك كله فقدان السيطرة إزاء هذه الصدمة الاستراتيجية.
وفي إطار المقارنات السريعة، يمكن القول إنه بقدر ما تتمتع البرازيل بتميز استثنائي في لعبة كرة القدم، وما يسود في أذهان المئتي مليون برازيلي من شعور بالقوة والعظمة في هذا المجال، بقدر ما يساور إسرائيل امتلاء بالقوة التي وصفت ذات زمن بأنها لا تقهر، وما استقر في عقلها السياسي من ازدراء للعرب، ومن غطرسة عنصرية وتجبّر، جعلتها على يقين بأن أعداءها إن لم يسلموا لها بالاحتلال القائم، فإنهم سوف يسلمون بذلك في نهاية المطاف، مع الفارق في أن البرازيل إذا خسرت مباراة فإنه يمكنها الكسب في المباراة اللاحقة، فيما إذا خسرت إسرائيل معركة واحدة، فقد لا تقوم لها قائمة.
وأياً كانت نتيجة هذه المواجهة العسكرية غير المتكافئة، والمفتوحة على احتمالات حرب برية؛ وكانت الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بأهل قطاع غزة مؤلمة وقاسية، فإن ما وقع في هذه الجولة من هذا الصراع المديد، سوف يظل محفوراً في الذاكرة الإسرائيلية، وإن الجرح الذي أصاب عنجهية جنرالات المؤسسة العسكرية المتباهية بذراعها الطويلة، وقدرتها الردعية الماحقة، لن تبرأ منه إلى أمد طويل، مهما وسّعت من عدوانها الآثم. إذ يكفي أن يخرج طفل من بين الأنقاض رافعاً علامة النصر بإصبعيه الصغيرين، حتى تكتشف إسرائيل أنها خاضت حرباً لعقد هدنة أخرى، تسبق حرباً جديدة.
(الغد)
يمكن اليوم تحوير تلك اللازمة الشهيرة بلا تكلف، بالقول: إذا أردت أن تفهم أسباب شعور الإسرائيليين بالصدمة والذهول في هذه الآونة، وهم اليوم يتلقون صواريخ بعيدة المدى، فإن عليك أن تعرف أسباب شعور البرازيليين بحس الخسارة الثقيلة، بعد خروج فريقهم من المباراة الأخيرة أمام "الماكنات" الألمانية في المونديال الذي جرى في البلد الأكثر شهرة في صناعة كرة القدم، وفي إنتاج النجوم، أو قل اللآلئ التي تمشي على الأرض في المستطيل الأخضر، وتنال البطولات بكل جدارة، جيلاً بعد جيل.
لم تكن تلك هي الخسارة الأولى لفريق كرة القدم البرازيلي، في المونديالات والألعاب الأولمبية السابقة؛ إلا أن الهزيمة هذه المرة كانت بالغة الوطأة على ذلك الشعب الذي تقع الساحرة المستديرة في مركز اهتمامه الأول، خصوصاً وأنها حدثت على أرضه وبين جمهوره، فوق أن نتيجتها كانت مذلّة وساحقة، الأمر الذي جعله غير مصدق لتلك الإهانة التي جرحت كبرياء البرازيل الكروي، فأذهلت الملايين وأبكتهم على الهواء مباشرة.
وأحسب بالمقابل أن مشاعر الابتهاج التي غمرت قلوب الغزيين خاصة، ومشاعر الفلسطينيين عامة، بقدرة المقاومة على قصف عدد كبير من المدن الإسرائيلية البعيدة عن قطاع غزة المحاصر، كان مصدرها الرئيس متمثلا في تحقيق تلك المفاجأة النادرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي؛ بقصف تل أبيب التي ظلت آمنة خلال سائر جولات الحروب السابقة، تسمع عن مجرياتها في الراديو والتلفزيون من دون أن تعيش ويلاتها، وبعكس ما كانت عليه حال المدن والحواضر العربية المحيطة.
ومع أن تلك الصواريخ لم تقتل أحداً على وجه التقريب، ولم تحدث خسائر مهمة، وقد لا تحقق نتيجة سياسية يعتد بها، إلا أن دلالاتها الرمزية والمعنوية كانت كبيرة، كونها جاءت خارج التوقعات المسبقة، وخارقة لكل التوازنات المختلة، لاسيما أنها أتت من جانب قوة صغيرة بكل المقاييس، ضد أكبر وأمضى آلة حربية في الشرق الأوسط، الأمر الذي أصاب العنجهية الإسرائيلية في مقتل، وأنتج مشاعر موازية لما ساد لدى البرازيليين عقب خسارتهم الكروية الفادحة؛ من حس بالإهانة والإذلال، ناهيك عن الفشل والإحباط والذهول، وفوق ذلك كله فقدان السيطرة إزاء هذه الصدمة الاستراتيجية.
وفي إطار المقارنات السريعة، يمكن القول إنه بقدر ما تتمتع البرازيل بتميز استثنائي في لعبة كرة القدم، وما يسود في أذهان المئتي مليون برازيلي من شعور بالقوة والعظمة في هذا المجال، بقدر ما يساور إسرائيل امتلاء بالقوة التي وصفت ذات زمن بأنها لا تقهر، وما استقر في عقلها السياسي من ازدراء للعرب، ومن غطرسة عنصرية وتجبّر، جعلتها على يقين بأن أعداءها إن لم يسلموا لها بالاحتلال القائم، فإنهم سوف يسلمون بذلك في نهاية المطاف، مع الفارق في أن البرازيل إذا خسرت مباراة فإنه يمكنها الكسب في المباراة اللاحقة، فيما إذا خسرت إسرائيل معركة واحدة، فقد لا تقوم لها قائمة.
وأياً كانت نتيجة هذه المواجهة العسكرية غير المتكافئة، والمفتوحة على احتمالات حرب برية؛ وكانت الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بأهل قطاع غزة مؤلمة وقاسية، فإن ما وقع في هذه الجولة من هذا الصراع المديد، سوف يظل محفوراً في الذاكرة الإسرائيلية، وإن الجرح الذي أصاب عنجهية جنرالات المؤسسة العسكرية المتباهية بذراعها الطويلة، وقدرتها الردعية الماحقة، لن تبرأ منه إلى أمد طويل، مهما وسّعت من عدوانها الآثم. إذ يكفي أن يخرج طفل من بين الأنقاض رافعاً علامة النصر بإصبعيه الصغيرين، حتى تكتشف إسرائيل أنها خاضت حرباً لعقد هدنة أخرى، تسبق حرباً جديدة.
(الغد)