jo24_banner
jo24_banner

ذاكرة عصية على الإمحاء

عيسى الشعيبي
جو 24 : لعلها الفعالية الوحيدة التي جرت في الشتات إحياءً للذكرى السادسة والأربعين ليوم الخامس من حزيران، تلك التي جرت أمام مكتب الأمم المتحدة في عمان، في ذكرى أحد أشد الأيام حلكة في التاريخ العربي الحديث. إلا أنها المرة الأولى، على مدى السنوات الطويلة الماضية، التي يتنادى فيها حشد من أبناء قرى اللطرون الثلاث لإحياء يوم النكبة الخاص بهم، في مشهد باعث على الألم والأمل والرجاء.
تقاطر مئات من أبناء قرى يالو وعمواس وبيت نوبا إلى المكان؛ أطفال وشيب وشابات وشبان، يحملون اليافطات والأعلام، ومفاتيح البيوت، ونسخة من مذكرة مرفوعة إلى كل من يعنيهم الأمر؛ منظمة دولية وجامعة عربية وسلطة فلسطينية والرأي العام، تشدد على تمسكهم بحق العودة، وترفض كل ما يمس بهذا الحق في إطار تبادل أراضٍ محتمل، أو تسوية سياسية تسلبهم ملعب الذكريات.
كانت هذه الفعالية الوطنية النادرة حصيلة جهود فردية منسقة، بادر إليها نفر من أبناء القرى الثلاث المدمرة، لإرساء هذه السابقة التأسيسية في إطار كفاح سلمي من المقدر له أن يتراكم في المستقبل المنظور، بقوة دفع ذاتية تكونت في ضمير رهط من الأبناء الذين كبروا في المنافي، وباتوا يمتلكون اليوم قدرات خلاّقة للحشد والتنظيم والاتصال، سعياً وراء هدف تأطير هذه الجهود، وتطويرها على نحو منهجي متدرج، لتحصين الذاكرة الجماعية، وتعزيز الحضور وتمكينه من التعبير عن النفس في المشهد الوطني العام.
لقد كنت واحداً من المدعوين لحضور هذه الفعالية التي لا سابق لها، كواحد من أبناء قرى اللطرون التي كادت تغيب عن التداول في غمرة الارتكاسات المتواصلة، وتفاقم حالة الاستعصاء المستحكمة في المسار السياسي. فمضيت إلى الموعد المضروب ممتلئاً بمشاعر الحنين إلى مسقط الرأس، والشوق إلى ملاقاة أصدقاء قدامى، والتمعن في وجوه أناس كبروا مع الأيام، والتعرف عن كثب على ما يدور في خلد قوم تقطعت بهم السبل في مشارق الأرض ومغاربها، وها هم اليوم يستجيبون للنداء.
بدا لي المشهد مفعماً بالحيوية، غاصّاً بالعبر الثمينة، وأنا أمرر عيني على مهل بين الوجوه عاقدة الحاجبين لأجيال تقدم بها العمر، وأخرى وُلدت في زمن ما بعد الهجرة القسرية، حيث هتفنا أمام كاميرات المراسلين، وصدحت حناجرنا بالشعار الأثير، وسلمنا ممثل الأمم المتحدة مذكرة مذيلة بتواقيع مئات من الحاضرين والغائبين، وتعاهدنا على أن يكون هذا النشاط مجرد بداية لسلسلة من الفعاليات الهادفة إلى تأطير الجهود المقبلة في نطاق عمل مؤسسي، يؤدي إلى خلق إطار جامع، قادر على جذب مزيد من الطاقات وتفعيلها بإبداع.
قرأت في المشهد الرمزي لجمهور القرى الثلاث، ما يدعو حقاً إلى الاعتزاز. فقد رأيت بين وجوه أبناء الفلاحين الذين زادتهم الهجرة فقراً على فقر، رجال أعمال وأساتذة جامعات ومثقفين ومهنيين من مختلف التخصصات. فقلت في نفسي: يا لهذه القدرة العجيبة على الانبعاث من تحت أصفاد القهر والفقر والاغتراب في كل الأمصار! إنه طائر الفينيق، أو قل عصفور النار. فكانت هذه المطالعة التأملية باعثة على الفخر بالذات، وعلى العزاء بما ألم بالآباء والأجداد، وفوق ذلك على الثقة بأن الحق لن يضيع إذا كان وراءه مثل هؤلاء الناس.
ذلك أن الزمن الذي راهن عليه الأعداء: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، بدا أمام هذا المشهد المثير للعقول والقلوب، أضيع رهان تعلق به الاحتلال. فإذا كان الآباء قد خسروا معركتهم ضد الغزاة، فإن هؤلاء الأبناء هم اليوم أكثر تأهيلاً لإدامة الاشتباك، وأشد عريكة في النزال متعدد الأشكال، وأعمق وعياً في الحرب التي لم تضع أوزارها بعد. وها هو الزمن ذاته يلعب لعبته الماكرة من جديد، حيث أبناء القرى الثلاث يُقدّرون اليوم بنحو سبعين ألفاً، ليسوا كتلة من السكان المهمشين، ولا هم فائض من المساكين والأميين والمضيعين، بل لديهم ذاكرة عصية على الاقتلاع، وعندهم ما يكفي من الإرادة الواعية لمواصلة المعركة على الوجود، والمطالبة بحق لا يقبل الإمحاء. (الغد)
issa.alshuibi@alghad.jo
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير