صفقة القرن
د. حسين بني هاني
جو 24 :
لم يكن قادة الحركة الصهيونية العالمية، بعيدون عن مؤامرات سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الاولى، وفكرة تقسيم الوطن العربي، على الشاكلة التي نحن بها الْيَوْمَ، ولَم يدلي بلفور بوعده بأرض فلسطين لهم جزافا، لان أوروبا المنتصرة (فرنسا وبريطانيا) التي أجهزت على رجل العالم المريض ( الدولة العثمانية) حينها ، كانت بتخطيط ورضى منها وبتعاون مع تلك الحركة ، تعد العدة لخلق كيانات ومناخات سياسية جديدة، تؤهل تلك الحركة، نيابة والتعاون المطلق معها، للسيطرة على المنطقة العربية بالتدريج وعلى مراحل ، شريطة ان تبقى مرتبطة معها ( ولاحقا مع الولايات المتحدة) وحافظة لمصالحها ، ليس حباً بها كما قال احد المستشرقين وإنما كي تكف شر سكانها العرب عنهم ، وتضع حداً نهائيا وشاملاً لامكانية بروز قوة عربية أو إسلامية اخرى في المستقبل ، على شاكلة تلك التي وطأت خيولها تراب أوروبا واقامت دولة الأندلس ، وجثمت على صدور اَهلها قرون طويلة، أو مثيلتها العثمانية ، مستفيدة هذه المرة من بروز قوة ناهضة سياسياً واقتصادياً ومالياً في مطلع ذلك القرن ( الصهيونية العالمية) ، ضاقت بها عواصم أوروبا ذرعاً ، ناصب اليهود فيها عبر التاريخ العداء ضد المسيح والمسيحية، حيث تصرف قادة أوروبا في حينها بميكيافيلية فجة ، جمعت القاتل مع المقتول في رقعة جغرافية واحدة، باعتبار ان الاثنين وفق مصالحها يقعون أصلاً في سلة سياسية واحدة.
من لديه شك بهذا السيناريو التاريخي، انصحه ان يتفقد عقله، وهو يرى فواجع الأمة المسكوت عنها الْيَوْمَ، بربيعها أو بالأحرى حريقها العربي الكبير منذ عام ٢٠١١ حتى الْيَوْمَ ، ونضوب خزائنها المالية، وفقر سكانها وتشردهم وشدة جوعهم وافتقارهم لابسط قواعد الحكم الرشيد ، بعد مضي وقت طويل على استقلال بلدانهم.
لم يكن انشاء اسرائيل في فلسطين الا أولى تلك الخطوات، ومن يظن غير ذلك فعليه الانتظار ثلاثة ارباع قرن اخرى، كي يصدق تجربة أولئك الذين خرجوا من فلسطين لاجئين ، وقيل لهم في حينه ، إنما هي ايّام معدودات للعودة الى ديارهم ، وإذ بها تمتد لعقود طويلة ، تشكلت خلالها اكبر قوة في الشرق الأوسط ، تتسلح بمخالب نووية، لاتسمح لغيرها امتلاكها، وفوق ذلك دعم دول كبيرة ، تملك حق النقض لحمايتها من اَي اذىً .
من يقرأ هذا الكلام، سيقول انني مفرط بالتشاؤم حد الذهول، وفاقد للبصر والبصيرة، وإنني أتجاهل أية نهضة للأمة، وهو تماماً ماقيل لأسلافنا عام النكبة ، أولئك الذين لم يعرفوا حينها، ان تلك الحركة المدعومة عالميا ، لم تصل فلسطين لبناء دولتها، إلاّ بعد ان سيطرت بمالها وإعلامها على قوى العالم الحية النافذة ، التي بات بيدها منذ ذلك الحين ، مقادير الناس على هذا الكوكب ومستقبل أيامهم ، ومن لديه شك بذلك عليه ان يعود الى سجل أممنا المتحدة بمجلسها العتيد ، ليقيس حجم الظلم الذي وقع على العرب باسم حماية السلم العالمي ، مقابل حجم التأييد لإسرائيل منذ تأسيس دولتهم حتى الْيَوْمَ .
لاعزاء لنا أيها القرّاء، فصفقة القرن قادمة، ومن لم يعجبه ظلمها، فليضرب رأسه بعصا الطاعة، لكي لايصيبه ما اصاب الشعب الفلسطيني ويصبح مثله ضحية القرن الجديد ، وعليه ان يتذكر ان من خرج من ارضه عام ٤٨ الى لبنان وسوريا أو الاْردن ، هو وأحفاده، ظناً بالعودة السريعة، ان يعلم ان الارض الفلسطينية ستصبح بعد الصفقة، على الخرائط الدولية، وربما بعض العربية أيضاً، ارض الميعاد واسمها اسرائيل، وان احفادنا وربما بعض ابنائنا الصغار، سيتعلمونها هكذا في مناهج التعليم ، وأنهم ( اَي الصهاينة) سيعلوّن علواً كبيرا ، وأن زعماء الطوائف لدينا ، سوف يواصلون الخلاف والاقتتال الى ماشاء الله ، وان سليكس- بيكو القديمة ، ستكون جنّة اجيالنا القادمة ، اذا ماقورنت مع تلك المذهبية الجديدة ، التي نشهدها الْيَوْمَ ، والتي ترسخت جذورها عميقاً في عقل وجسد الأمة، وأصبحت عقيدة العصر ، بعدما دخلت عليها اسرائيل من أوسع الأبواب ، وغدت حليفة لمذهب دون آخر ، دون ان يعلم قادة هذه الطوائف ، ان اسرائيل العظمى قادمة، تماماً كما خطط لها زعماء الصهيونية في عواصم الغرب قبل قرن من الزمان ، وبنوا لها دولة ديموقراطية حقيقية، لم يستطع الاعراب منذ سقيفة بني ساعدة ، ان يقيموا ولو شبيها لها بحده الأدنى ، يؤسس للأمة ثقافة جديدة تقوم على مبدأ تداول السلطة ، بعد ان ألغى معاوية بن ابي سفيان ، فكرة " الشورى" ، وأسس بداية عهد ملكه العضود .