تايوان.. والغموض الاستراتيجي الأميركي-الصينى
د. حسين بني هاني
جو 24 :
قدر تايوان ان تكون لعبة ثمينة غامضة ،في صراع واشنطن وبكين في جنوب شرق اسيا ،يتقاذفها الطرفان ،ويغني كل منهما فيها على ليلاه ،من جهةٍ ترى فيها واشنطن قاعدة متقدمة للرأسمالية ،فيما تنظر إليها بكين ،بأعتبارها بوابة للصبر على مصالحها الاقتصادية في الولايات المتحدة والغرب ،دون ان يؤدي ذلك الى التنازل عن حقها في ضم تلك الجزيرة ، الى البر الصينى ولو بعد حين.
في هذا السياق ،لاتترك الصين مناسبة إلا وتؤكد فيها على حقها في استعادة هذه الجزيرة إلى حضنها السياسي ،وهو مالوّح به مؤخراً الرئيس الصينى امام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى ،في تشرين أول الحالي حين قال ،أنه لن يعد أحدًا بالتخلي عن حق الصين بإستخدام القوة لاستعادة تايوان.
من يتابع سياسة المد والجزر ،بين القوتين ،يعرف ان التحذير الصينى هذا موجهٌ أصلا للبيت الابيض قبل تايوان ،ذلك البيت الغارق حتى أذنيه ،في حرب غير مباشرة مع الرئيس بوتين في اوكرانيا.
يحضرني في ظل هذا الصراع ،مانسب إلى نابليون قوله … حين تستيقظ الصين فإن العالم سوف يتزعزع ،هذه عبارة موغلة بالتاريخ ،ولكنها اخذت تقضّ مضاجع واشنطن ،منذ بداية الألفية الجديدة ،بعد ان نظرت الى النهضة الصينية ،الهادئة الناعمة ،بعين الشك والريبة ،اذ لم يستطع ترامب في بداية عهده ،إخفاء ذلك القلق ،حين وصف العالم ، بأنه "ساحة تتبارى فيها الدول ورجال الاعمال من اجل المصالح ". من تلك النافذة نظرت واشنطن الى الصين ، وبالتحديد منذ رئاسة أوباما الأولى ، بعد ان وجدت في النهضة الصينيه ،معالم حرب باردة جديدة ، ذات طابع أقتصادي وتجاري وتكنولوجي أكثر منه ايديولوجي ،حرب اكدها مستشار ترامب السابق (جون بولتون)،حين قال ان مستقبل العالم سيتحدد من خلال العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية الأميركية الصينيه.وما يقلق واشنطن اكثر ان بكين تتكلم لغة الشيوعيه داخليًا ،ولغة الرأسمالية خارجيًا ،وتشجع المبادرة الفردية وسياسة الانفتاح واللامركزية.
بالمقابل اكتشفت الصين ،عبر انفتاحها المبكر على الولايات المتحدة ، ان الفقر والاشتراكية لا يلتقيان ،وان اكتساب التكنولوجيا والمعرفة ضرورة ملحة . من هنا بدأت الصين تضغط على عصب الاقتصاد الاميركي ،حين استقبلت المستثمرين الامريكيين واستحدثت المناطق الاقتصادية الخاصة ،في مقاربة ظنت واشنطن في ثمانينيات القرن الماضي ،أنها انتحار سياسي صينى ،وتنكر لمبادئها الاشتراكية ،وانتصار صارخ للرأسمالية في أهم معقل للشيوعيه ،فيما اعتبرتها بكين اشتراكية أقتصادية بمواصفات صينية،نجحت فيها بقوة وبدأ معها المارد الصينى بالتمدد أقتصاديا بالساحة الأميركية ،بمنتجات صينية المنشأ برأسمال امريكي جشع ،يستغل أيدي عاملة صينية رخيصة ،يحقق من خلالها أرباحًا طائلة ،أين منها تلك التي تعمل بالساحة الامريكيه ، وأصبحت الصين بفضلها اكبر مصدر للولايات المتحدة ،وأكبر مستقبل لشركاتها العملاقة ،وأكبر مودع لرؤوس الأموال في البنوك الأميركية.
لم يكن اوباما أقل قلقًا من خلفه ترامب ،حين قال في خطاب الإتحاد عام ٢٠١٥ ان الصين تريد ان تغير القواعد الناظمة للمنطقة في شرق آسيا ، التي تعرف اكبر نمو اقتصادي سريع في ألعالم ،وتساءل قائلًا…لماذا نتركها تفعل ؟ وأضاف ينبغي علينا ان نكون نحن من يكتب القواعد الناظمة لهذا الأمر. في مقابل هذه الدعوات ،استطاعت الصين ان تحقق وبهدوء تام حلمها الكبير ،الذي يقوم على تلازم غنى الدولة ونهضة الأمة وسعادة الشعب ،او ما يسمى في الغرب ،بعالم الرفاه الامريكي ،ولكن على الطريق الاشتراكي ذو الخصائص الصينيه.
المشكلة بالنسبة لواشنطن ،أن مشروع النهضة هذا ،يركز على جوار الصين القريب للحد من التأثير الأميركي في آسيا ،والذي تعتبر تايوان قاعدته المتقدمة ،وهو الامر الذي لا يمكن ان تقبل به واشنطن ،مكرسة جهدها لإقناع حلفائها الاوروبيين بوضع المزيد من الضغط على بكين ،وهو الامر الذي يرفضه البعض ،بسبب مايربطهم مع الصين من مصالح كبيرة.
تتساءل دور الدراسات والبحث ،حتى في الولايات المتحدة ، عن لحظة الحقيقة بين واشنطن وبكين ،ومتى تكون ؟ وعن قوة الخيط الذي يربط بين الطرفين ،وعن الرئيس الأميركي الذي سيبادر لقطعه ،جلاءً لما أصبح يسمى بالغموض الاستراتيجي الذي يلف علاقة البلدين ،ولكنهم جميعا يستبعدون ان يقوم رئيس امريكي ضعيف مثل بايدن ،بقطع هذا الخيط ،رغم كل هذا التحرش الذي ابداه ،منذ ان أخذ موقعه في البيت الابيض.
لا تبدو الصين أيضا مستعجلة لقطع هذا الخيط، باحتلال تايوان ،مكتفية بالضغط على أعصاب البيت الابيض، بنجاحها الاقتصادي الذي يلقي بظلاله عليها وعلى القارة الاوروبية أيضًا.