الربيع المتجدد
د. حسين بني هاني
جو 24 :
حدث الربيع العربي في الإقليم، وما زال يتجدد في كل من الجزائر والسودان، بعد عقود من التكلس السياسي والانفراد بالسلطة. ورغم الويلات التي حدثت بسببه في بعض الدول العربية، والتي ربما تشمل في طريقها كل من الجزائر والخرطوم، الا ان وعي الناس ما بعد الربيع، يشير بأن زحف الثقافة العربية الجديدة، القائمة على حق المساءلة والنقد والدعوة للمشاركة الحقيقية في السلطة، وحرية التعبير وشغفهم الشديد برؤية التغيير، بات أمراً يصعب ايقافه بين الجيل الجديد، وان القول بأن الشعب هو مصدر السلطة، لم يعد ترفاً، أو أغنية سياسية يتغنى بها الحاكم، وإنما أضحت حقاً يتعذر على الحاكم عدم النظر اليه وتجاوزه، مهما حاولت السلطة المراوغة أو شراء الوقت أو تأجيل هذا الاستحقاق .
كانت الدول العربية قبل الربيع، تستخدم الرقابة لتغييب المعلومة، في محاولة منها لتحييد العقل الجمعي، ومنع المشاركة في القرار السياسي، وإن لزم الأمر اللجوء إلى القمع والمنع، ولكنها تفاجأت بعد الربيع، بأن ما كان ميسورا لها في هذا المجال، اصبح متعذراً عليها ومتاحاً للمحكومين، بل يصعب السيطرة عليه، وان القدرة على الردع فيه قليل الحيلة، وقد يؤدي إلى المواجهة التي لاتريدها الدولة ويخسر فيها الجميع، وان خطاب الدولة غير مقنع، وان بعض شخوصها فاسدون، والشطر الثاني في بيت قصيدها بات مبتوراً، لاتسعفه بلاغة اللغة، ولا مواعظ الدين، بل ضاقت فيها السبل وحتى مساحة المناورة، وأضحت المطالب حقوقاً لا يدري الحاكم كيف يلبيها دون ان تمس سلطته المطلقة.
كل هذا حدث، وما زال خطاب بعض الدول العربية، يحمل أسفاراً، ويستند لأساطير سياسية عفا عليها الزمن، تبني على سردٍ إنشائي مقيت، شاخَ وكاد يموت، يخلو من الرؤية التي تواكب معطيات العصر، أو تلبي مطالب الناس.
كل المشتغلين في حقل السياسة يعرفون تماماً، ان كتب الأدب السياسي اليوم تحفل بكثير من المصطلحات، التي لم تعد تخفى على احد، ويراها الجميع مرفوعة في كل شعارات الاحتجاج العربية، طبعا لايذكرها الناس (أي المصطلحات) من باب الترف، وإنما باعتبارها من صلب الحقوق وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بل انها لم تعد بنظرهم تخاريف يهذي بها العاطلون عن العمل، كما تدعي السلطة، وإنما باعتبارها مبادئ سامية وضرورية، لاتقل أهمية عن الخبز، لانها غدت تمس كرامتهم الإنسانية، وبسبب هذا بات يختمر في وجدان الإنسان العربي بعد الربيع، حلم فيه كثير من الألم، أخذ يقض مضاجعه، فلم يعد يطيق تفرد الحاكم بالسلطة، واعتباره (أي المواطن) رقماً بين الجموع، وهو يرى كيف ان أي مثيل له في العالم صانع للقرار وشريك فاعل في السلطة، التي لاتراعي شؤونه فحسب، وإنما تخطب ودّه وتسعى إلى رضاه ولا تستطيع تجاوزه.
باختصار نحن الان أمام ثقافة جديدة وواعية، بدأت تحتل مكانة كبيرة في عقل ووجدان العربي، تشير بأن زمن القحط المعنوي لديه قد ولّى، وان ماكان مسكوتا عليه بالأمس، لم يعد مقبولا اليوم، وان حلبة المسرح السياسي عنده، لن تجترح بعد اليوم نصوصاً متحايلة على الناس، فالمعاني قد تغيرت، وعابرو السبيل في السياسة، لم يعد لهم طريق سوى التزود بكل مفردات العصر السياسية التي لايمكن لحاكم ان أراد النجاح والاستمرار ان يتجاوزها، بعد ان اصبح اليوم بكامل هيبته وجهاً لوجه أمام شباب واعٍ، يحمل رؤية ويقبل التحدي في الشارع ولديه القدرة على كتابة روايته السياسية بإيقاع جديد، ورموز جديدة وانضباط شديد في الشارع، مهما بلغت التضحيات وطال الزمن.